في الثالث والعشرين من فبراير، أي قبل خمسة أيام من غزو روسيا أوكرانيا، شاركت مستشارة الأمن القومي الأميركية سوزان رايس في برنامجMeet the Press واستبعدت أي طرح عن أن روسيا تعدّ العدة لتدخل عسكري، فقد ذكرت: "ليس في مصلحة أحد أن يتجدد العنف ويتفاقم الوضع"، وأصرّت على أن العودة "إلى بنية الحرب الباردة" ليست ضرورية لأن هذا التفكير "صار جزءاً من الماضي" و"لا يعكس حقائق القرن الحادي والعشرين". فحتى لو كان فلاديمير بوتين يرى العالم من هذا المنظار، وفق رايس، "فليس من مصلحة الولايات المتحدة" أن تحذو حذوه.

لكن ما ذكرته رايس يشكّل دليلاً واضحاً جدّاً على رؤية العالم وفق منظومة التمنيات، لا على حقيقته.

Ad

في 28 فبراير، تدفقت القوات الروسية إلى أوكرانيا. في تلك الأثناء، تحدث وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى نظيره الروسي سيرغي لافروف، وبعد تلك المناقشة، قدّم كيري تقريراً موجزاً للمراسلين بدا فيه غافلاً تماماً عن كل التطورات التي تحدث على الأرض. ذكر كيري أن روسيا تريد مساعدة أوكرانيا في حل مشاكلها الاقتصادية، فقد أعلمه لافروف أنهم "مستعدون للتدخل والمساهمة في مساعدة أوكرانيا في عملية الانتقال الاقتصادي الضروري في هذه المرحلة".

بعد ساعات، عرضت شاشات التلفزيون حول العالم صور الجنود الروس وهم يدخلون القرم وقطع سلاح المدفعية الروسي تجوب في شوارع سيفاستوبول المختلفة، فأخبر مسؤولو إدارة أوباما بربارا ستار على شبكة CNN أن هذا التوغل لا يُعتبر "احتلالاً"، بل "وصول لم يواجه أي تحدٍّ"، وأن وجه الاختلاف هذا "أساسي" في فهم التطورات الجديدة.

لكن تلطيف الواقع لا يمكن أن يبدّله؛ لذلك أدلى الرئيس باراك أوباما بتصريح جاء فيه: "ستقف الولايات المتحدة إلى جانب المجتمع الدولي في تأكيده أن أي تدخل عسكري في أوكرانيا سيكون له كلفة"، لكن البيت الأبيض لا يبدو مستعداً ليقود المجتمع الدولي في توجيه رد على تدخل بدأ بالفعل. رغم ذلك، أعلن الرئيس الأميركي وعلى وجهه تكشيرة واضحة أننا "نقف إلى جانب" آخرين، في حال تحوّل الوصول الذي لم يواجه أي تحدٍّ إلى تدخل عسكري حقيقي (بعد ثلاثين دقيقة من توجيهه هذا التحذير الذي سعى من خلاله إلى التعبير عن مدى تصميمه وحزمه، شارك أوباما في اجتماع للجنة الديمقراطية الوطنية وأعلن خلاله بدء "الساعة السعيدة").

بعد أربعة أيام من فرض روسيا سيطرتها الفعلية على شبه جزيرة القرم الأوكرانية، عقد فلاديمير بوتين مؤتمراً صحافياً أطلق خلاله مجموعة من الادعاءات والتصريحات المحيرة التي تناقض أحياناً بعضها بعضاً أو الواقع على الأرض. على سبيل المثال، أكّد بوتين أنه ما من جنود روس في أوكرانيا، وأن الجنود الناطقين بالروسية، الذين يعرّفون عادةً عن أنفسهم كجنود روس، هم على الأرجح مجموعات دفاع محلية اشترت زيها من متاجر بيع العتاد العسكري.

اختار البيت الأبيض أن يرى بصيص أمل في ما اعتبره آخرون مجرد دعاية سياسية، فقد علّق مسؤولو الإدارة آمالهم على جملة واحدة من كلام بوتين وعبارات التفاؤل التي أطلقها، فأعلن الرئيس الروسي: "أما عن نشر الجنود، فلا داعي لاستخدام القوات المسلحة اليوم. وسيبقى هذا التدبير الحل الأخير". اعتبر مسؤول الأمن القومي في فريق أوباما هذا الادعاء، الذي جاء بعد أيام من نشر الجنود الروس، دليلاً على أن بوتين يبحث عن "مخرج"، وسرعان ما حصلنا على اسم لمقاربة أوباما الجديدة من هذه الأزمة: "تخفيف التصعيد".

لكن هذا ليس تخفيفاً للتصعيد، بل وهم، وهو خطر بالتأكيد، علماً أن الناس يدركون ذلك على ما يبدو، ففي استطلاع للرأي نشرته شبكة Fox News في 6 مارس، انخفضت شعبية سياسة أوباما الخارجية إلى مستوى لم يسبق له مثيل لتبلغ 33% فقط (وصلت نسبة الرافضين لها إلى 56%).

طوال خمس سنوات، أصرّت إدارة أوباما على رؤية العالم كما تتمناه، لا كما هو في الواقع، ففي هذا العالم الخيالي، صار الاعتداء في فورت هوود "عنفاً في مكان العمل"، ومفجر عيد الميلاد "متطرفاً معزولاً"، ومحاولة تفجير ساحة تايمز اعتداء "منفرداً"، واعتداءات بنغازي رد فعل "عفوياً" تجاه فيديو على موقع YouTube، وبشار الأسد "مصلحاً"، وتنظيم القاعدة "في حالة هرب متواصل". بالإضافة إلى ذلك، من الممكن إقناع النظام الإيراني بالتخلي عن برنامجه العسكري النووي، ويُعتبر فلاديمير بوتين القائد الروسي الجديد في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

ولكن في العالم الواقعي، كان مطلق النار على الجنود في فورت وود يراسل المجاهد الراحل أنور العولقي، وأُرسِل مفجر عيد الميلاد من اليمن، حيث حصل على توجيهاته من تنظيم "القاعدة" في شبه الجزيرة العربية، أما مفجر ساحة تايمز، فحصل على التدريب والتمويل من حركة "طالبان" باكستان. ونفذت اعتداءات بنغازي مجموعة إرهابية معروفة، بالإضافة إلى ذلك، يوسّع تنظيم "القاعدة" مناطقه ويعزز وجوده. كذلك يُعتبر الأسد دكتاتوراً وحشياً مسؤولاً عن موت أكثر من مئة ألف سوري، فضلاً عن أن النظام الإيراني أبرز دولة راعية للإرهاب في العالم وهو مصمم على تحويل إيران إلى دولة نووية. أما في روسيا، فنواجه عودة إلى الحرب الباردة مع استعداد لاستخدام القوة بهدف توسيع النفوذ الروسي، علاوة على ذلك، تبيّن أن فلاديمير بوتين مختلف كل الاختلاف عن الصورة التي كوّناها عنه، شأنه في ذلك شأن باراك أوباما للأسف.