بي داو أحد أشهر شعراء المدرسة الرمزية في الصين، وهو أحد المؤسسين لمدرسة الضبابية الشعرية، والتي كانت تعنى بتحقق الغموض في الشعر. اتسمت المدرسة بموقفها المعارض للثورة، والقيود التي تمارسها على الثقافة.

Ad

تقدم المختارات بترجمة اسكندر حبش لوحة بانورامية عن مراحل الكتابة لدى الشاعر الصيني، إذ تبدأ مع فترة نهاية السبعينيات وتنتهي مع الألفية الجديدة (نحو 75 قصيدة). هي كتابة متمسكة بالألم الذي يضغط عليها، ومن هنا تبدو خالية من أنواع الخطابات كافة، خصوصاً السياسية، وهي كما يكتب مترجم أحد دواوينه {وردة الزمان} إليوت وينبرغر أن {تشديد شعره على المشاعر الفردية وعلى المخيلة ذاتها اعتبر أمراً مدمراً بل منفراً في مجتمع اتسم يومها بالشمولية}.

 يشهد شعر بي داو دائماً، على هذه الحالة الداخلية الثائرة والمتمردة، ليس فقط ضد نظام سياسي معين بل أيضاً {ضد أنواع الأنساق كافة ذات الحقيقة المطلقة}. ومن هنا هذه العوالم غير المحتملة التي يتحدث عنها، والتي يحاول أن يبتعد عنها، وإن ليس بمسافة كبيرة، {إذ على الشاعر ألا يخون الألم الإنساني}.

بي داو صاحب القصيدة الشهيرة {الإجابة} أو {الجواب}، التي تحولت إلى منشور ونشيد، علق على جدران ساحة تيان إن مين خلال احتجاجات 1989، حينها كان الشاعر في برلين، وعندئذٍ لم تسمح له السلطات الصينية بالعودة إلى بلده، اتكاءً على ما كان له من دور في التحريض على الاحتجاجات الدموية. ليمضي بي داو بعد ذلك أكثر من 20 عاماً منفياً في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، لكنه لم يتخل عن الكتابة بلغته الأم: {إنها اللغة الصينية التي لا تزال تساندني حتى اليوم}، وكان يرى الكتابة باللغة الإنكليزية المنفى الأخير والبغيض. استعمال الشعر في التظاهرات يقتصر على أسماء شعرية محددة في العالم، من نيرودا إلى محمود درويش وقبلهما رامبو. وأن يكون بي داو حاضراً في التظاهرات الصينية أواخر الثمانينيات فهذا أمر يحمل دلالة كبيرة ويبين مدى أهميته في بلاده.

انسيابية الحلم

تتميز قصيدة بي داو بأنها مكثفة لماحة رمزية، وتميّز بعض قصائده الجديدة باندفاعة الحلم وانسيابيته، وبالتعبير المجاني العفوي المبسط، إذ يرى الشاعر القصيدة متحررة من الأشكال النمطية، ومتطورة تعبيرياً وتخييلياً، وهي في الوقت نفسه، لا تتخلى عن التراث الشعري التقليدي.

لا يتوقف شعر بي داو عن المساءلة الدائمة، وهو بحسب اسكندر حبش، يلجأ إلى الشعر التقليدي، عبر الصور التلميحية وكأنه يستعيد بذلك قول شاعر صيني آخر هو تانغ كزيادو «بالنسبة إلى صيني يكتب الصينية في بلد غريب عنه، تتبدى اللغة على أنها الحقيقة الوحيدة التي يملكها».

بي داو، من مواليد بكين عام 1949، إذ كان للمجلة التي أصدرها بعنوان {شعر} الدور البارز في الحركة الشعرية الصينية الحديثة، وذلك قبل أن تغلقها الحكومة بعد اعتبارها أن الشعر الذي ينشر فيها ليس سوى {بارازيت} معاد للقيم الأخلاقية والجمالية. رُشّح زاو زينكاي، الذي اتخذ لنفسه اسم بي داو، لجائزة نوبل في السنوات الأخيرة. وبي داو تعني {الجزيرة الشمالية}، إشارة إلى دياره وإلى عزلته أيضاً. يتحدر الشاعر من عائلة أرستقراطية، وقد تعلم في أفضل مدارس الصين إلى أن أُغلقت تلك المدارس عام 1966 خلال الثورة الثقافية. أرسل يومها إلى الريف حيث أمضى 11 عاماً يعمل كحداد وعامل لمزج الإسمنت، وقد أكسبته تجارب كهذه شعوراً مرهفاً تجاه مظاهر الحياة الصينية المختلفة.

ربما هي المرة الأولى التي يصدر فيها شعر بي داو مترجماً إلى العربية ضمن كتاب مخصص له، لكن تُرجمت له قصائد كثيرة سابقاً ويعرفه العرب عن كسب. ولا شك في أن ترجماته تفيد القارئ العربي في الاضطلاع على الثقافة الصينية، ولكن في المجمل الترجمة لا تخلو من فعل الخيانة...

محطة مترو

عواميد الباطون الكهربائية هذه

كانت خشبات عائمة

فوق مجرى نهر

أتصدق هذا؟

ولا مرّة طارت النسور إلى هنا

حتى وإن كانت قبعات شعر الأرانب

تعرض في الشوارع تنوعها

أتصدق هذا؟

وحدها الماعز في الليلة الصامتة

تسير قطعانا في المدينة

المنارة بالنيون

أتصدق هذا؟

الأيام والدرب

الظل كما نشيد ربان

ذي مصفاة لونها أخضر باهت

الطائرة الورقية التي إلى يسار الشمس

عاصفة ثلجية

تنتظر الإذن.

إننا على أحد منعطفات القصيدة، كما

لو أننا نفتح درجا بلا حلم

كل الثقوب تمتلئ

بلهاث الفعل الجنسي

مصباح إشارة السير يشير

إلى التفاوت بين الأيام والدرب

وهذه الاستعارة مثل حوض الصبّاغ

يبلل ثيابنا

أنغاماً مبتدئة

ألواناً منتهية.

 

ليلة ماطرة

حين الليل المتبدّد في المستنقعات

يهدهد نخلة جديدة

مثلما نُهدهد الطفل الذي يغفو،

حين في أنوار المصابيح

تنتظم لآلئ المطر

التي تُزين كتفيك بنارٍ

ثم تتدحرج حتى التراب

تقول: كلا

بحزم

لكن ابتسامتك تتواطأ مع سرّ قلبك.

الغيوم الخفيضة والمعتمة، براحتيها الرطبتين،

تلمس شعرك

تمزج بمداعباتها أريج الورود ونَفَسي المشتعل

الظلال التي تبسط المصابيح

ونلحقها عند كل ناصية، عند كل حلم،

تحمل في فخاخها لغز سعادتنا.

الأحزان الماضية تسمرت دموعاً تبلل منديلك

نُسيت تحت رواق معتم.

وإن غداً صباحاً

أجبرتني فوهات البنادق والشمس المدماة

على أن أضحي بحريتي، بشبابي وريشتي

لن أتنازل لهم عن هذه الليلة

لن أهبك إياها.

قد تختم الجدران شفتي

قد تقطعني القضبان عن سمائي

لكن ما خفق قلبي، فسيعرف دمي موجاته

وابتسامتك، المحفورة على القمر الأحمر

سترتفع كل ليلة أمام النافذة

لتوقظ ذاكرتي.