كثرت التحليلات حول موقف جمهورية إيران الإسلامية الجديد في المفاوضات النووية، وقد تركز الكثير منها (إيجاباً أو سلباً) حول الأوجه الشكلية، أو اللغوية، أو الزمنية لهذا الموقف الجديد، مثلاً: يرتدي الإيرانيون ملابس أكثر أناقة، يضحكون أكثر، يغردون بذكاء، يجيدون الإنكليزية، أو يبدون أكثر انفتاحاً للتفاوض مباشرة مع الشيطان الأكبر السابق (من الدعابات الرائجة في إيران اليوم: كم جميل أن يتحول الشيطان الأكبر فجأة إلى دولة محبوبة لطيفة!).

Ad

لكن هذه التحليلات تتغاضى عن تغيير أكثر أهمية: ارتكزت استراتيجية إيران النووية طوال سنوات على شراء الوقت بالمراوغة، من خلال عرقلة الاجتماعات بالحديث مطولاً عن أخطاء الشيطان الأكبر السابقة. كذلك استغل الإيرانيون رغبة الصين في النفط، وتوق تركيا إلى جني الأرباح، وميل روسيا إلى التعاطي بعدائية مع الولايات المتحدة، وأحياناً حاجة الشركات الأوروبية إلى النفط وحصص السوق كي يعززوا استراتيجيتهم. فاستخدموا الوقت الذي كسبوه لتوليد واقع نووي على الأرض. كان الرئيس حسن روحاني، الذي شغل منصب كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين سابقا، أول مسؤول يكشف تفاصيل استراتيجية "تمرير الوقت لتوليد واقع على الأرض" هذه. لكن المفاوضين الإيرانيين يتوقون اليوم إلى التوصل إلى صفقة. فقد وقعوا أخيراً اتفاقاً جديداً مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يسمح لها بتفتيش مفاعل الماء الثقيل في آراك ومنجم لليورانيوم. كذلك يبدون متحمسين لإنشاء علاقة جديدة مع الولايات المتحدة، ذلك البلد عينه الذي اعتُبر الشيطان الأكبر طوال ثلاثة عقود.

أدت حقيقتان متضاربتان إلى هذا التغيير المفاجئ في الاستراتيجية. وإذا لم نفهمهما جيداً، فلن نتمكن من التوصل إلى حل دائم محتمل للمفاوضات المتعثرة اليوم.

أولاً، يرتكز الواقع النووي، الذي سعى إليه النظام الإيراني، على ما يبدو، على تحقيق قدرة نووية: لا القدرة على امتلاك قنبلة، بل على تطويرها في فترة وجيزة. وتشير كل الأدلة راهناً إلى أن هذه القدرة باتت واقعاً ملموساً في إيران. فتملك الجمهورية الإسلامية اليوم نحو 19 ألف جهاز طرد مركزي جاهزة لتُنتج إمداداً كافياً من اليورانيوم المخصب إلى نسبتَي 5% و20% على حد سواء. كذلك تملك إيران التكنولوجيا اللازمة لتطور جيلاً جديداً من أجهزة الطرد المركزي. وعندما تقرر إيران تطوير قنبلة، هذا إن قررت ذلك، تستطيع الحصول على ما تحتاج إليه من يورانيوم عالي التخصيب لصنع قنبلة واحدة على الأقل في غضون شهر تقريباً. ولا شك في أن تخصيب اليورانيوم يُعتبر وجهاً واحداً من أوجه هذه القدرة الكثيرة. وتشمل هذه الأوجه استخدام اليورانيوم كسلاح، وتصغير حجم القنبلة، وتعلم كيفية تفجيرها، والتوصل إلى آلية إطلاق ونقل. تختلف التوقعات بشأن التقدم الذي حققته إيران في كل من هذه المجالات. ولكن عندما يبدأ العمل في مفاعل آراك للماء الثقيل، تقلص إيران الوقت الذي تحتاج إليه لتطور قنبلة. ومما لا شك فيه أن إعلان النظام أخيراً تحقيقه إنجازات جديدة في تقنياته الصاروخية، بما فيها اختبار صاروخ يعمل بالوقود الصلب، لم تساهم في الحد من المخاوف بشأن قدرة النظام النووية.

أما الواقع المهم الآخر الذي يجب أن نأخذه في الاعتبار، فيشمل كلفة هذه القدرة. فمع اشتداد وطأة العقوبات ومعاناة الفساد وعدم الكفاءة المطبق طوال ثماني سنوات خلال عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، اضطر النظام الإيراني فجأة إلى الإقرار بأن سعيه المتواصل لتحقيق هذه القدرة كلفه ثمناً باهظاً. ومع نفاد عائدات النفط وتنامي المنافسة بين الفصائل داخل النظام بهدف الحصول على حصة أكبر من الموارد المتقلصة، بدت إيران بأمس الحاجة إلى اتفاق ينهي العقوبات. لذلك يعتقد مَن يعارضون أي صفقة مع النظام أن رفض عقد اتفاق في الوقت الراهن وتشديد العقوبات سيؤديان إلى انهيار النظام أو سيحملانه على التراجع عن التقدم الذي حققه في برنامجه النووي. لكن هذا الطرح يتجاهل نقطة بالغة الأهمية: صحيح ان النظام، خصوصاً القائد الأعلى علي خامنئي وحلفاءه، يفتقر إلى الكفاءة، إلا أنه ليس انتحارياً. فقد أنفق الكثير من رأسماله السياسي والاقتصادي على هذه القدرة النووية، حتى بات في نظره أي اتفاق لا يمكنه الترويج له كانتصار بين الشعب الإيراني (أو وفق لغته الجديدة "كنتيجة لا غالب فيها ولا مغلوب") يعادل الانتحار السياسي. لذلك من الجنون الاعتقاد أن يأس النظام سيدفعه إلى القبول بأي صفقة، وخصوصا صفقة تفرض عليه تفكيك كامل برنامجه النووي. فهذا الاعتقاد لا يختلف كثيرا عن فكرة أن أي صفقة يقدمها النظام تُعتبر جيدة.

يسعى كل من الأطراف الكثيرة المعنية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالمفاوضات النووية إلى نتائج مختلفة: يريد النظام التخلي عن الحد الأدنى من قدرته النووية (ما يُعتبر "مناورة تهرب" وفق الخبراء النوويين) مقابل تخفيف العقوبات في الحال. في الوقت عينه، لا يستطيع الإيرانيون، بسبب المأزق الخطابي الذي أوقعوا أنفسهم به، الاعتراف بأن رغبتهم الملحة في إنهاء العقوبات تعود إلى الأذى البالغ الذي ألحقته بهم. في المقابل، تعتبر دول، مثل إسرائيل والسعودية وفرنسا، أي تنازل غير التفكيك الكامل لبرنامج إيران صفقة سيئة بالغة الخطورة، لأنها تساعد النظام في حل أزمته الراهنة وتعزز موقف المتشددين وتشجعهم على المضي قدما في تطوير قدرتهم النووية.

تكمن المفارقة في أن الإيرانيين المتشددين زادوا هجماتهم الشرسة على محادثات جنيف الأخيرة. فهم يدعون ان الغرب يتوق إلى عقد صفقة مع إيران. ويريدون العودة إلى سياسات عدم التنازل السابقة. حتى إن بعضهم يُطالب باعتذار عن وقاحة الغرب لأنه تحدث عن مخاوف حقيقية من برنامج إيران النووي. ومع أن خامنئي دعم المفاوضات علانية، وإن بتردد، سمح لأعوانه بمهاجمة كل مَن أمل إذابة الجليد مع الغرب وحل الأزمة النووية.

بين حالات التطرف هذه (سعي النظام للإفلات من العقوبات، وإصرار خصومه على مواجهة إيران عقوبات أكثر تشددا، وإنكار المتشددين في إيران أن العقوبات تسيء إليهم وإصرارهم على أن مواصلة التمرد الطريقة الوحيدة لتخطي هذه الأزمة)، تنشأ الحاجة إلى استراتيجية تفاوض حذرة مع إيران تحقق أهدافاً عدة: أولاً، يجب أن تطيل أي صفقة المدة الزمنية بين اتخاذ القرار السياسي لتطوير قنبلة والنقطة التي تُطور فيها هذه القنبلة فعلاً وتصبح جاهزة للإطلاق. ثانياً، قبل التوصل إلى اتفاق نهائي، يجب أن يقتصر تخفيف العقوبات على ما يؤذي الشعب الإيراني، لا ما يلحق الضرر بالنظام. ثالثاً، صحيح أننا يجب ألا نحرج النظام الإيراني بدون أي داعٍ بسبب سوء إدارته الفادح للمفاوضات النووية السابقة (على سبيل المثال، لا تختلف الخطوط العريضة للصفقة المطروحة على الطاولة اليوم عمّا كانت إيران تستطيع الحصول عليه قبل ست سنوات، موفرة على شعبها الكثير من المعاناة)، وأن نسمح له بإعلان أنه توصل إلى اتفاق لا غالب فيه ولا مغلوب، ولكن ينبغي ألا نرضى بأن يخفي كل الحقائق عن الشعب الإيراني.

صحيح ان النظام عبر عن اعتداله دولياً، إلا أنه انطلق في حملة قتل في الداخل: أكثر من 150 عملية إعدام منذ استلام روحاني زمام السلطة منذ أقل من مئة يوم. إذن، كهدف نهائي، يجب أن يواصل المجتمع الدولي التفاوض مع إيران في المسألة النووية من دون أن ينسى مطلقا مسألة حقوق الإنسان البالغة الأهمية. هذا ما فعله الرئيس رونالد ريغان وزير الخارجية جورج شولتز مع إمبراطورية الشر. ولا شك في أن الشيطان الأكبر، الذي تحول إلى دولة محبوبة لطيفة، يستطيع تحقيق الأمر عينه مع نظام أقل نفوذاً.

عباس ميلاني Abbas Milani