ظلَّ موقف فوكو المنبهر بالثورة الخمينية مدار جدل فترة طويلة، وما زال. فهو حيناً يُتخذ ككليشيه لـ{مثالية» الثورة الإسلامية ويتسابق بعض المواقع الإلكترونية الخمينية في «استغلاله» باعتبار أن فوكو مفكر ما بعد حداثوي يؤيد ويتماهى مع الثورة الإسلامية، وثمة من الغربيين من يعتبره قدّم مساعدة معتبرة لأجل إنجاح تجربة «الإسلام السياسي». على أن الأسئلة التي ظلت تطرح نفسها هنا هي التالية: كيف يدافع أحد أهم دعاة التحررية عن الثورة الدينية ويتسامح مع عودة الأنظمة الثيوقراطية التي حسمت الحداثة الغربية المعركة معها منذ الثورة الفرنسية وإبعاد سلطة الكنيسة عن التدخل في الشأن العام؟ وهل يحاول فوكو الانتصار إلى النزعة الثقافية التي تمثلها فرنسا ضد النزعة الاقتصادية التي تجسدها أميركا؟

Ad

قضية فوكو مع الثورة الخمينية ليست أمراً عابراً وليست مجرد سقطة، تشبه تلك القضايا الشائكة والعالقة في الذاكرة مثل علاقة الفيلسوف مارتن هايدغر بالنازية، أو علاقة الشاعر إزرا باوند بالفاشية. هي موضوع مثير للجدل، أساء إلى وهج مؤلفات فوكو التي أصبحت من كلاسيكيات ما بعد الحداثة، ولهذه الأسباب لا تزال خمينية فوكو المرحلية قضية يُبحث عن جوهر أسبابها، فحتى الأمس القريب أعيد نشر مقابلة أجراها الجامعي فارس ساسين بالفرنسية مع فوكو عن زيارته إلى إيران، كانت نشرت بالعربية في مجلة {النهار العربي والدولي}. وترجم إلى العربية كتاب {فوكو صحافياً} (دار جداول) ويتضمن مقالات الأخير ومقابلاته عن الثورة الإيرانية ومجموعة مقالات حول إيران.

لا يمكن اختصار فوكو بما كتبه عن إيران ولا يمكن رجمه عن خطأ ارتكبه، فمعظم المفكرين لديه أخطاء ويمارس التحولات في المواقف السياسية والولاءات. ربما علينا الغوص في تداعيات تلك المرحلة ومتابعة جوانب منها. لقد برر فوكو أسباب اندفاعه إلى الثورة الخمينية قائلاً في مقابلته مع فارس ساسين: {بينما كنت أمضي فترة نقاهة في الصيف الفائت بعد حادث صحي ألمّ بي، قرأت كتاباً لم يشتهر في فرنسا ولم يكن له فيها صدى كبير. هذا الكتاب هو {مبدأ الأمل} لأرنست بلوخ. وتراءى لي أنه يطرح مسألة جوهرية هي مسألة الرؤية الجماعية للتاريخ التي بدأت تتبلور في أوروبا في القرون الوسطى. فحْوى هذه الرؤية هي إدراك إمكانية وجود عالم آخر وأفضل على هذه الأرض ورفض واقع الأشياء وعدم اعتباره أمراً ثابتاً ونهائياً والسعي إلى اكتشاف ثغرة ونقطة تضيء وتجذب داخل الزمن والتاريخ وتتيح الانتقال إلى عالم أفضل على هذه الأرض الفانية.

ذهبت إلى إيران وفي ذهني السؤال الآتي: ما العلاقة بين الثورة السياسة والآمال الدينية؟}.

الثورة انتفاضة

بغض النظر عن مسار الثورة الإيرانية وكيفية سيطرة الخميني والملالي على السلطة بعد طردهما التيارات اليسارية والعلمانية والثقافية المشاركة في الثورة. فوكو كان لديه موقف مسبق محبذ لكل ثورة، ورأى في الثورة الإيرانية انتفاضة لتحرير شعب. ورغم متابعة فوكو المتحمّسة لما كان يحدث في إيران، لم يكن مناصراً للخميني ولا للنظام الجديد الذي ستفضي إليه الثورة، وإنما كان متحمّساً لحدث التمرّد في ذاته، لهذا الرّفض الشامل والعام للسّلطان القائم، بامتداداته وبدائله. فما كان يعني فوكو من كلّ ما جرى ليس {الإسلام} في حدّ ذاته ولا إيران ولا الملالي، وإنّما تجربة {الحدث}، أي حدث {الثّورة} بما هو قطيعة مع النّظام القائم. فهو يستعمل بدل لفظ {الثّورة} ألفاظاً وعبارات أخرى مثل {التّمرّد}، أو {الحركة الدّينيّة}، أو {حركة ثورية}، أو {الحدث الثوريّ}. وبدأ لفظ {الثورة} في الظهور لمّا غادر فوكو إيران: {لمّا غادرت إيران كان السّؤال الذي يطرح عليّ دون هوادة هو بطبيعة الحال: {هل هي الثّورة؟}. وبعد سيطرة الخميني على السلطة وإعدامات المعارضين له سيطرت على فوكو خيبة أمل مما جرى، فكتب رسالة مفتوحة إلى مهدي بازركان الذي كلف من طرف الخميني بتشكيل الحكومة: {ليست لدي بالطبع سلطة سيدي رئيس الوزراء لأتوجه إليكم سوي بالإذن الذي منحتموني إياه عندما أفهمتموني في لقائنا الأول أن الحكم بالنسبة إليكم ليس حقاً تشتهونه بل هو واجب في غاية الصعوبة. عليكم أن تتصرّفوا بحيث لا يرفض هذا الشعب أبداً القوة التي حرّر بها نفسه للتوّ من دون تنازل}. وتحت عنوان لافت يختتم فوكو تأملاته عن الثورة الإيرانية بمقال:} لا فائدة من الثورة}... يحلل أو يبرر موقفه: {بما أن الثورات تقع على هذا النحو {خارج التاريخ} وفي التاريخ لأن كل شخص يغامر فيها بحياته وموته، فإننا نفهم لهذا السبب كيف استطاعت أن تجد بسهولة في الأشكال الدينية تعبيرها ومسرحها. فالوعود بالعالم الآخر وبعودة الزمن وانتظار المخلص ومملكة يوم القيامة، التي يسود فيها الخير دون منازع، هذه الأمور كافة شكلت على مدى قرون عدة، وحيثما سمح نمط الدين بذلك لا غطاء أيديولوجيا للثورات فحسب، بل نمط عيشها ذاته}.

نقد عنيف

لاقت مقالات فوكو نقداً عنيفاً من المتابعين، نشرت على مواقع الإنترنت قراءة مفصلة لكتاب {فوكو، الجنوسة، والثورة الإيرانية} لجانيت آفاري وكيفن آندرسون، ويظهر أن الخلافات في شأن كتابات فوكو عن إيران معروفة في فرنسا، وخلال المناقشات التي تلت الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن عام 2001، أشار أحد المعلقين الفرنسيين في جريدة {لوموند} بقوله: {ميشيل فوكو، داعية الخمينية في إيران}. وقد اعترفت غالبية المتعاطفين مع فوكو بالطبيعة الإشكالية البالغة لمواقفه من إيران، ووضح ريبون ديدييه، المحرر في مجلة {الابزرفاتور}، وأحد أصدقاء فوكو أن: {النقد والسخرية الذي تعرضت لهما {خطئية} فوكو في ما يتعلق بإيران، زادا من الإحباط الذي أحس به جراء النقد الذي استقبل به المجلد الأول من {تاريخ الجنسانية}}.

شخَّص بعضهم كتابات فوكو عن إيران بأنها {حماقة}. واقترح أن يكون لولع فوكو بالموت دور في حماسه للإسلاميين الإيرانيين، وحرصهم على الشهادة. اثنان من الناشطين في الحركة النسوية تهكما على فكرة فوكو عن {الروحانية السياسية}، وتساءلا ما إذا كانت لها علاقة {بالمعنى الروحي} للإعدامات العلنية للمثليين. وقد أطلقا دعوة إلى فوكو ليعترف بأن أفكاره بخصوص إيران كانت {خطأ}.

تعاطف  

نادراً ما دافع أحد عن كتابات فوكو حول إيران على عكس ما جرى في هجمات سابقة على كتاباته الأخرى، مثلاً تلك التي قادها سارتر وبوفوير على كتابه {الكلمات والأشياء} (1966). باستثناء واحد، وهو ما كتبته الناشطة النسوية من المدرسة ما بعد الحداثوية كاثرين كليمنت في جريدة {لوماتين} عندما اعتبرت أن فوكو ببساطة {حاول أن يرى ما أفلت من رؤانا الثقافية} وأنه ما من {مخطط في تراثنا، حتى في مجال حقوق الإنسان، يمكن أن يطبق مباشرة على ذلك البلد، الذي يقوم بالثورة اعتماداً على ثقافته الخاصة}.

بعد 30 عاماً على رحيل فوكو وأكثر من 35 عاماً على الثورة الخمينية، تنامت أصوليات مختلفة ومتنوعة ومتعسفة وفاشية تراوحت بين الإرهاب المحلي والمعلوم و11 سبتمبر وبلغت ذروتها في الداعشية التي تمارس الشدائد كافة من الصلب إلى بتر الأعضاء والإعدامات التعسفية ورمي الجثث في الوديان.