تبدأ إسرائيل عام 2014 بمواجهة لحظة "ديكنزية" بامتياز: يخيّل إليها أنها تسبح في عالم مثالي في حين تعيش أسوأ أوقاتها في الحقيقة.وبما أنّ اليهودي عموماً يميل بالفطرة إلى المبالغة في السلبيات، دعونا نركز أولاً على ما هو إيجابي: المرونة المدهشة التي أظهرتها إسرائيل في ظل المحنة الاقتصادية العالمية والهدوء الملحوظ الذي واجهت فيه الأخيرة الفوضى الإقليمية التي تحوم حولها. أولاً، الاقتصاد: إذا شملت ذكرياتك المبكرة عن إسرائيل، كذكرياتي تماماً، رحلات مضنية إلى مصارف على الطراز السوفياتي لشراء ما يكفي من "الشيكل" لاجتياز النهار خوفاً من أن يفقد استثمارك نصف قيمته قبل شروق الشمس، فمن المذهل أن نكتشف أن إسرائيل اليوم تملك إحدى أقوى العملات في العالم... إنها المعجزة الاقتصادية الإسرائيلية، فحسب قول سفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة مايكل أورين تشمل هذه المعجزة مفاخر وإنجازات في مجال التكنولوجيا والتجارة وتصدير الكافيار إلى روسيا.ثانياً، الاستقرار: لم تنجُ إسرائيل كلياً من احتجاجات الشوارع التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط وكثيرا من دول العالم خلال العامين الماضيين، فقد أقام عشرات الآلاف من الناس احتجاجاتٍ في مدن إسرائيلية أيضاً، ولكن بينما تمحورت الاحتجاجات المندلعة في القاهرة وحلب وتونس وكييف حول القضايا الأساسية المتعلقة بالحياة والموت والحرية، كانت فحوى هذه الاحتجاجات في إسرائيل تدور حول أسعار العقارات والكلفة العالية للجبنة البيضاء الطرية.وبقدر ما يبدو أن لإسرائيل جداراً أمنياً يقيها من الهجمات الإرهابية بقدر ما يبدو كذلك أن لها حاجزاً يحميها من عدم الاستقرار المحيط بها خارج حدودها، فرغم أن الفوضى أصبحت من صفات أكبر دولتين على حدودها أي مصر وسورية، فإنها لم تؤثر في الاستقرار في الأراضي المجاورة لها: أي الضفة الغربية والأردن. ليس ذلك فحسب بل يلاحظ أكثر المشككين أن احتمالات تحقيق تقدم في المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين هي اليوم أكبر من أي وقت مضى خلال عقد من الزمن، وذلك رغم أن العقبات التي تحول دون تحقيق انفراج حقيقي ما زالت قائمة. وثمة سيناريوهات كثيرة قد يتحوّل فيها المشهد الوردي إلى كابوس مظلم، لكن ذلك لم يحدث بعد، ولعلّ الهدوء هذا أكثر ما يلفت النظر في خضمّ ما يعصف بالشرق الأوسط.يعتبر المدافعون عن الاتفاق النووي المعروف بـ"الخطوة الأولى"- الذي تم التوصل إليه بين إيران وتحالف دول بقيادة الولايات المتحدة- أنه أوقف عقارب الساعة النووية الإيرانية لإعطاء فرصة للدبلوماسية فحرم إيران من حلمها بالتحول الى دولة تنتج السلاح النووي، ويقول منتقدو الاتفاق إن إدارة أوباما أهدرت جهودها المضنية للحصول على أدنى النتائج الأمر الذي حدّ من قدرة التحالف الدولي على فرض اتفاق شامل يغلق الباب نهائياً أمام إيران في مجال صنع قنبلة نووية، ورغم أن الناطقين باسم الإدارة الأميركية هاجموا بشكل معيب، برأيي، نوايا منتقدي الاتفاق الحسنة، فإن بوسع العقلاء من الناس الاختلاف حول الموضوع، وآمل أن يكون مؤيدو الاتفاق على حق؛ لكنني أشك في ذلك، ومع ذلك فإن ما لا شك فيه أن مسيرة إيران نحو الحصول على نفوذ إقليمي تسير على قدم وساق- ففي سورية، تحقق إيران انتصاراً مذهلاً مع «حزب الله» وبشار الأسد "الجزار"؛ وفي العراق، يزداد نفوذها في أعقاب انسحاب القوات الأميركية؛ حتى في الخليج يلحظ بعض القادة المحليين النفوذ الايراني المتعاظم وقد يراهن بعضهم على الأمر، أما إسرائيل فلا مجال هنا أن تغامر بعلاقتها مع أميركا.يجب أن نذكّر هنا بوجود خلافات دائمة بين واشنطن والقدس، بعضها عميق الجذور فعلاً، فبين 1948 و1967، عارضت أميركا دوماً توسع إسرائيل خارج الحدود المذكورة في قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم تعترف أميركا يوماً بالقدس كعاصمةٍ لإسرائيل، رغم طلبات إسرائيل المتكررة في هذا الصدد، حتى إن البلدين اختلفا حول تحديد سبب عدم إحراز أيّ تقدم نحو السلام- أهو احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية أم رفض العرب الاعتراف بشرعية الدولة اليهودية؟ ورغم كل ما تقدم وجد كل من أميركا وإسرائيل سبلاً لبناء شراكة أصبحت موضع حسد معظم بلدان العالم.ولكن نظراً لعمق الانقسام بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن إيران، فقد تواجه هذه الشراكة في عام 2014 أشد امتحان لها منذ قيامها حتى تاريخه، فهي المرة الأولى منذ 1982 التي يعارض فيها رئيس وزراء إسرائيلي بصورة مباشرة مبادرةً دبلوماسية يقوم بها رئيس أميركي، وقد مرّت فترة طويلة منذ صرّح رئيس أميركي علناً وبشكل قاطع (حصل ذلك في عام 1956) أنه هو شخصياً، وليس رئيس وزراء إسرائيل، من يعرف مصلحة إسرائيل على النحو الأفضل.وكما يبدو أن الأمور ستكون في المستقبل القريب على المنوال نفسه، فإن الرئيس أوباما نفسه لم يمنح نجاح الدبلوماسيين الأميركيين في التوصل إلى اتفاق شامل مع إيران إلا احتمالاً بنسبة 50%، وقد يكون البديل إذاً هو التمديد للاتفاق المؤقت، الأمر الذي سيزيد من عمق الأزمة مع إسرائيل، وقد يزيد ذلك من احتمال شن هجوم عسكري إسرائيلي أحادي على المواقع النووية الإيرانية، الأمر الذي سيلحق حتماً ضرراً عميقاً بالعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وبما أنّ إسرائيل ما زالت بحاجةٍ إلى دعم أميركي عند انقشاع الغبار، فلا يمكننا القول إن أسوأ المراحل بين الدولتين قد حل ولكنه مقبل لا محالة.كل ما نأمله إذاً هو أن يتمكن الدبلوماسيون الأميركيون في عام 2014 هذا من التوصل الى اتفاق نهائي مع إيران يبدد مخاوف اسرائيل، ويؤسس لمستقبل أفضل، وإن لم يحصل ذلك في القريب العاجل فسيكون على الإسرائيليين التفكير في قضايا هي أبعد وأخطر بكثير من كلفة الجبنة الطرية البيضاء!
مقالات - Oped
هل يفجّر الجدل حول إيران العلاقة بين إسرائيل وواشنطن؟
16-01-2014