المتتبع لمؤلفات يوسف زيدان سيلفته بلا شك شغفه بتاريخ الأديان، وبحثه الدؤوب عبر هذا التاريخ الإنساني/ العقائدي عن الجذور ونقاط التقاطع وبؤر الصراع، وما يتمخض عن كل ذلك من أحداث تتراكم وتتنامى ككرة الثلج، لتصب في الحاضر الذي هو في النهاية ثمرة هذا التاريخ وخلاصته. وقد لا يخفى على القارئ لهذه المؤلفات سواء البحثية منها أو الروائية مدى قدرة الكاتب على تمثّل الرؤية الكلية لمسيرة الأحداث التاريخية في عموميتها، وشغفه بصنع تلك الإسقاطات الذكية على مشكلات الحاضر الراهن من خلال تلك الرؤية الشاملة.

Ad

في كتابه "اللاهوت العربي/ وأصول العنف الديني" سياحة واسعة في تاريخ الأديان الثلاثة الرسالية، كما يفضل تسميتها، لأن مصطلح "الديانات السماوية" مستحدث، ولم يرد عند العلماء الأوائل. فهي ديانات رسالية أو "رسولية"، لأنها أتت إلى الناس عبر رسل وأنبياء من الله يدعون إليه تعالى ويخبرون عنه الناس. وفي بيان هدف البحث في تاريخ الأديان الثلاثة، يؤكد المؤلف أن غايته هي توضيح مدى ارتباط الدين بالسياسة من جهة، ومن جهة أخرى ارتباطه بالعنف الذي لم يخلُ منه تاريخنا الطويل اليهودي والمسيحي والإسلامي، ولن يخلو منه يوماً. وكذلك الإشارة إلى الروابط الخفية بين المراحل التاريخية المسماة بالتاريخ اليهودي /التاريخ المسيحي/ التاريخ الإسلامي. ثم النظر إلى هذه التواريخ باعتبارها تاريخاً واحداً ارتبط بالجغرافيا، وتحكمت فيه آلية واحدة، وحكمته مشتركات ممتدة عبر ماضينا الطويل المشترك يهوداً ومسيحيين ومسلمين.

والكاتب في منطلق بحثه عن نقاط الالتقاء بين الأديان الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، لا يعتدّ بمسألة المقارنة بينها أو بصواب منهج المقارنة، لأنه يرى أن الأديان الثلاثة ما هي إلا تجليات لجوهر ديني واحد. أما كلمة "لاهوت"، التي جاءت عنواناً للكتاب، فهي من حيث المعنى مقصود بها الإلهيات أو العلم الإلهي أو ذات الله وصفاته أو الثيولوجيا، على حد تعريف الكاتب.

حين يبدأ المؤلف في تقصي مفهوم "الله" و"الأنبياء" في التوراة بدءاً، ينطلق من كون التوراة أو العهد القديم بمنزلة حجر الزاوية في الديانة اليهودية، وتعترف بها المسيحية اعترافاً كاملاً، وينظر إليها الإسلام بعين القلق من دون أن يرفضها تماماً، على اعتبار أنها صحيحة الأصل، محرّفة النص. أما صورة "الله" في اليهودية فتعدّ إشكالية بحد ذاتها، ليس بسبب تعدد أسمائه فقط، وإنما تعدت ذلك إلى طبيعة الله وصفاته في التوراة. فهو "تعالى" يظهر تارة داعياً إلى الخير وفضائل الأعمال، وتارة أخرى يظهر عنيفاً منتقماً من الناس لحساب اليهود، أما في سفر التكوين فيظهر حائراً وثائراً على البشر جميعاً كما في قصة الطوفان، أو يتخذ صفة الجبار المنتقم، وغيرها من صفات "بشرية" أو "متناقضة" حسب سياقات الأسفار والقصص التوراتية.

ولا تقف المسألة عند الصفات الإلهية في القصص التوراتي، والتي يصعب إلحاقها بالذات الإلهية، وإنما تعدى ذلك إلى مناقضة القيم الإنسانية حين جاءت النصوص التوراتية مستهينة بحقوق البشر من غير اليهود، وممعنة في تحقير "الأمم" غير اليهودية التي اعتبروها أقل إنسانية من أبناء الرب.

أما الصورة التوراتية للآباء الأوائل والأنبياء فقد اشتملت على الكثير من الأفعال المهولة التي لا تليق بمقاماتهم السامية، كمعصية الخالق أو السُّكر وزنا المحارم والسرقة والقتل... إلخ. وبقيت هذه الإشكالية المتعلقة بصفات "الله" وصورة الأنبياء موضع قلق وعدم قبول عند غير المؤمنين بقدسية النص التوراتي، وبقي هذا الإشكال قائماً حتى جاءت المسيحية لتطرح خطاً آخر للإصلاح والتصحيح.