سنبقى ننفخ في قربة مثقوبة ونطالب الولايات المتحدة بالتخلي عن سياساتها المحيرة ومواقفها المتذبذبة تجاه الأزمة السورية، التي ستدخل بعد أيام قليلة عامها الرابع، فالأميركيون بقوا يتقدمون خطوة ثم يتراجعون خطوتين، إذ رسموا في البدايات خطوطاً حُمْراً أمام استخدام المروحيات في المواجهة مع المعارضة، التي بدأت سلمية وانتهت عسكرية ومسلحة، لكنهم ما لبثوا أنْ تخلوا عنها واستبدلوها بخطوط أمام الطيران الحربي المُجنَّح، ثم تراجعوا ورسموا مثل هذه الخطوط أمام الصواريخ الثقيلة، ثم تراجعوا أمام البراميل المتفجرة وأمام الكيماوي وتقاعسوا أمام الجيوش والمليشيات المذهبية.

Ad

لقد أدت كل هذه السياسات المحيرة والمواقف المتذبذبة، التي ترافقت مع منع الأسلحة النوعية وغير النوعية عن فصائل المعارضة، حتى بما في ذلك الجيش الحر والفصائل المعتدلة، إلى تسليم مقاليد الأمور لروسيا الاتحادية لتلعب في سورية كما تشاء، ولتلجأ ومعها الصين بالطبع إلى استخدام حق النقض "الفيتو" ثلاث مرات لتعطيل مجلس الأمن الدولي كلياً، ولتمنعه من اتخاذ أي قرار حتى بالنسبة للمعونات الإنسانية وإيصال الطعام والدواء إلى محتشدات اللجوء داخل الأراضي السورية.

وبكل هذا فإن الولايات المتحدة، التي تحولت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بدايات تسعينيات القرن الماضي إلى القطب الأوحد واللاعب الوحيد في العالم كله، إلى دولة ثانوية مهيضة الجناح، لا تستطيع أن تضع عينها في عين سيرغي لافروف بينما استمر هو في إملاء ما يريده على جون كيري، وبينما برز فلاديمير بوتين كزعيم عالمي أرغم رئيس أكبر دولة في الكرة الأرضية على الاختفاء نهائياً من الساحة الدولية، وإشعار، حتى أبناء شعبه، بأنه من الأفضل عدم مناطحة الصخرة الروسية والانزواء بعيداً وراء المحيطات التي تفصل أميركا عن العالم الجديد.

وبالطبع، فإنَّ الحجة لتبرير كل هذه التراجعات هي أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى الشرق الأوسط ونفطه ومميزاته المائية "الإستراتيجية" بعد اكتشاف الغاز الصخري وبعد توجهها نحو الشرق الأقصى والمراهنة على الصين التي أصبحت عملاق الاقتصاد العالمي كله، وهذا في حقيقة الأمر هو حجة "المفلسين"، وهو تضليل سياسي تؤكده الحقائق الدامغة التي تثبت أن هذه المنطقة الشرق أوسطية ستبقى، وربما لقرن كامل وأكثر، العقدة التي يتلاقى عندها العالم بأسره، وأهم منطقة إستراتيجية في الكرة الأرضية كلها.

خلال الأيام القليلة الماضية وفي أعقاب الفشل الذريع لـ"جنيف2" ساد انطباع بأن هناك تحولاً في مواقف واشنطن تجاه الأزمة السورية، وأن هناك خطة وافقت عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها من الأوروبيين والعرب خلال اجتماعات ذات طابع استخباري لزيادة شحنات الأسلحة النوعية وزيادة التدريب للمعارضة السورية المعتدلة، لكن وقبل أن يتلاشى صدى المعلومات التي تحدثت عن هذا الأمر بادر مسؤول كبير في الإدارة الأميركية إلى نفي وجود تغيرات "كبيرة" في سياسة واشنطن تجاه سورية: "قد يعتقد البعض أننا وصلنا إلى خيارات جديدة... لكن الأمر ليس على هذا النحو... من الممكن القول إنه تغيير في النظرة وليس في السياسة"!

لذلك، وإذا صحَّت تصريحات هذا المسؤول الأميركي، وأغلب الظن أنها صحيحة، فإن هذا يعني أن سورية في أحسن الأحوال ستتحول إلى عراق ثانٍ، وستصبح محتلة من قبل الإيرانيين احتلالاً كاملاً، وستكون النهاية تشظي هذا البلد وانقسامه، وسترتفع أعداد القتلى فيه لتصل إلى أرقام فلكية، وسيستمر النزوح الداخلي والخارجي إلى أنْ تصبح الأكثرية أقلية... وستكون الولايات المتحدة هي المسؤولة تاريخياً عمَّا حلَّ بهذا البلد من ويلات ومصائب وعن النهاية المأساوية التي سينتهي إليها إذا لم يطرأ ما يغير مسار الأحداث ويُستبدَل هذا المسار البائس بمسار صحيح أفضل منه.