كان نظام ما بعد الحرب الباردة، الذي نشأ نتيجة تفكك الاتحاد السوفياتي، محكوماً عليه بالفشل لأنه ارتكز على الاعتقاد أن روسيا ما بعد الحقبة السوفياتية ما عادت تمثّل مشكلة، حتى عندما أدرك القادة الغربيون أن روسيا بقيادة فلاديمير بوتين بدأت تتحوّل إلى مشكلة، تبادلوا الاتفاقات السياسية مع الكرملين مقابل الحصول على فوائد اقتصادية. وهكذا قبِلَ الديمقراطيون الليبراليون بالمشاركة في لعبة "ادعاء" اعتبروا فيها روسيا "بلداً طبيعياً" مع اندماج النخبة الروسية بالغرب وإفسادها النظام الغربي من الداخل.

أمل مراقبون غربيون كثر أن تحول هذه المقايضة دون إثارة موسكو المشاكل خارج الحدود الروسية، فكيف يُعقل أن يضمر مَن يحفظون أموالهم المكتسبة بطريقة غير مشروعة في مصارف غربية ويرسلون أولادهم إلى مدارس غربية السوء للغرب؟

Ad

أوضح غزو بوتين أوكرانيا أنه كفّ عن الادعاء، فلم يكتفِ الكرملين بقمع المعارضة داخل الحدود الروسية.

يرتكز استمرار نظام بوتين على البحث الدائم عن الأعداء في الداخل والخارج، فقد تحوّلت أوكرانيا إلى أرض اختبار لكرملين يسعى إلى القضاء على فكرة الثورة بحد ذاتها (لا في روسيا فحسب، بل في الكتلة السوفياتية السابقة ككل) وإرغام الغرب على القبول بحقه في الإقدام على خطوة مماثلة.

بالإضافة إلى ذلك، يكشف تفكيك أوكرانيا آلية المصفوفة الروسية، التي تشكّل فيها السياسة الخارجية أداة الدعاية المحلية الرئيسة؛ لذلك يُعتبر مَن يقلقون حيال الإمبريالية الروسية فحسب مخطئين: تشكّل السيطرة على الأراضي و"الدفاع" عن الناطقين بالروسية في دول أخرى وسيلة لتحويل روسيا إلى دولة في حالة حرب، مما يجعل بوتين رئيساً في زمن الحرب ويقوي موقفه في الداخل.

لا يسعى بوتين إلى تعديل نتائج نهاية الحرب الباردة فحسب، بل يريد أيضاً أن تكون له الكلمة الفصل في تأسيس نظام عالمي جديد. باختصار، يعرض الكرملين عملية مقايضة جديدة: مقابل استمرار الفوائد الاقتصادية التي ينعم بها الغرب، تريد روسيا موافقة الغرب على تفسيراتها الخاصة لقواعد اللعبة.

لا يقوّض هذا الرؤيةَ الغربية عن سلام كانط الدائم فحسب، بل يولّد أيضاً أشراكاً جديدة للطرفين.

في الجانب الروسي، تبنى الكرملين خطاباً ليبرالياً بغية إضفاء الشرعية على تدخله في أوكرانيا، فقد طالب كييف بأن تصلح الدستور الأوكراني وتسمح بإجراء استفتاءات محلية بشأن حق الانفصال والفدرالية، لكن المواطنين الروس يفتقرون في الوقت عينه إلى حقوق مماثلة، حتى إن المطالبة بها قد تودي بالمطالِب إلى السجن.

إذن، يقوّض خطاب الكرملين الخارجي شرعية النظام الروسي، وسيحين الوقت بالتأكيد حين يعلن تتار روسيا: "لمَ لا نملك نحن أيضاً حق تقرير مصيرنا؟"، وسيأتي وقت يسأل فيه الروس أيضاً: "لمَ لا يحق لنا إجراء استفتاء أو معارضة السلطات؟". بكلمات أخرى، نشهد اليوم وضعاً يتحول فيه سعي الكرملين للاستمرار إلى ما يشبه ماراثوناً انتحارياً.

لكن الديمقراطيات الليبرالية لا تبدو أفضل حالاً، فبعد أن أخذتها مناورات بوتين على حين غرة، تخبر الديمقراطيات الليبرالية الكرملين أن الغرب قد يكون مستعداً للقبول بالوضع القائم الجديد، في حال أوقف بوتين أعماله العدائية. وقد عكس اتفاق جنيف، الذي وُقّع في السابع عشر من شهر أبريل بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، مدى عجز الغرب عن وقف الجهود الروسية الرامية إلى زعزعة الاستقرار الأوكراني، فلم تحقق مطالبات الغرب بـ"الحد من التصعيد"، التي ارتكزت إلى "خطوط حمراء" مبهمة، أي هدف غير استفزاز موسكو ودفعها إلى المضي قدماً، وبرفض منح أوكرانيا أي فرص حقيقية للانضمام إلى المجتمع الأوروبي-الأطلسي من خلال عضوية الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي، يترك الغرب أوكرانيا في منطقة رمادية من عدم اليقين، مما يجعلها أكثر عرضة للسقوط في المدار الروسي.

صحيح أن العقوبات الغربية التي فُرضت حتى اليوم بدأت تؤثر في روسيا، إلا أنها قوَّتْ في المقابل منطق الاستمرار الذي يعتمده بوتين ويقوم على فكرة "الحصن المحاصر"، ولا تُعتبر مطالبة هذا القائد الروسي أخيراً الانفصاليين الموالين لروسيا في دونيتسك بتأجيل إجراء استفتاء بشأن الاستقلال نوعاً من الاستسلام، بل دعوة إلى كييف للتفاعل مع مصالح الكرملين من خلال "الحوار" هذه المرة.

لا شك أن هذه الدعوة إلى الحوار التي أطلقها قائد قصَرَ حياته السياسية في روسيا على حوار أحادي بحت تبدو أشبه بتنافر إدراكي، لكن هدف الكرملين عملي على الأرجح: التحوّل إلى دور صانع السلام وعقد صفقة فاوستية جديدة مع الغرب تقنعه بالقبول بالسيادة الأوكرانية المحدودة، وحق قوات خارجية تعليم الأوكرانيين ما هو صواب وما هو خطأ.

أراهن أن القادة الغربيين، الذين سئموا المشكلة الأوكرانية، قد يقبلون بهذه الصفقة، وسينضم الكرملين إلى طاولة المعتدلين المستديرة الأوكرانية، وبدل أن يظهر بوتين بمظهر الغازي، سيُعتبر عندئذٍ مهندس واقع جديد ما بعد المرحلة العصرية.

أوليس هذا مضحكاً؟