أحبت مديحة يسري لقب الحاجة، فكان زملاؤها ينادونها به، ورفضت المشاركة في أفلام تتعارض واللقب الذي أصبحت تعتز به، ما يفسر سر ابتعادها عن السينما، في تلك الفترة، مكتفية بإنتاج البرامج، إلى أن أقنعها المخرج يحيى العلمي بالعودة إلى التمثيل، لكن هذه المرة عبر فيلم «خائفة من شيء ما» (1979) مع النجوم: نجوى إبراهيم وعزت العلايلي ورشدي أباظة، ورغم أن العودة كانت عبر شخصية ثانوية، فإن عشقها للتمثيل وافتقادها له دفعاها إلى الموافقة فوراً.

Ad

كان خبر عودة مديحة يسري إلى السينما بمثابة الشرارة التي انتشرت في الهشيم، فاحتفل بها الإعلام وأهل الفن، وتوالت عليها العروض السينمائية التي تقدم فيها دور الأم، لكنها حرصت على الاختيار لتحافظ على تاريخها السينمائي.

وفي صباح أحد الأيام فوجئت باتصال من المخرج محمد عبد العزيز، يطلب منها المشاركة في بطولة فيلمه الجديد «خلي بالك من جيرانك» مع عادل إمام ولبلبة فؤاد المهندس، فقبلت على الفور، ذلك أن الدور كان مناسباً لها.

أخبرها عبد العزيز أن عودتها إلى الفن أنقذته، إذ كان يبحث عن فنانة بمواصفاتها تؤدي الدور، ولكن من دون جدوى، ما هدد الفيلم بعدم الظهور، لولا عودتها إلى الفن التي أسعدته، مع ذلك طلب منها ألا توافق إلا بعد قراءة السيناريو.

تحمست مديحة للفيلم بعدما قرأت قصته التي تدور حول عروسين تتهدد حياتهما الزوجية بسبب إصرار الزوجة على إقامة علاقة بجيرانها، وجسدت خلاله مديحة دور الأم التي تقف إلى جوار ابنتها بسبب ظروف زوجها الصعبة، قبل أن تتعرف إلى أحد الجيران (فؤاد المهندس) وتحبه وتقرر الزواج منه.

بين 1979 و1986 قدمت مديحة نحو ثمانية أفلام سينمائية أضافت إلى مسيرتها الفنية أهمها: «الصبر في الملاحات»، «العرافة»، «مع تحياتي لأستاذي العزيز»، وكادت تتابع تألقها واستعادة مكانتها لولا فاجعتها في ابنها التي أوقفتها عن العمل حزناً عليه.

ابني

كان عمرو قد بلغ مرحلة الشباب وأتم عامه السابع والعشرين، وبينما هو في زيارة لأحد أصدقائه في منطقة المطار، انقلبت به السيارة خلال عودته إلى المنزل، وتُوفي في الحال، وعندما تلقت والدته الخبر عبر الهاتف صدمت وتوجهت على الفور إلى المستشفى لتلقي نظرة الوداع الأخيرة على ابنها الشاب.

الغريب أن مديحة، قبل أيام من موت ابنها، تنبأت بموته أو، على حد تعبير الصحافي الفني المعروف كمال الملاخ، نعته بعدما وصفت مشهد نهايته، إذ حلت ضيفة في أحد البرامج الإذاعية، وقالت، رداً على سؤال حول أقصى ما تحلم به، أنها تتمنى اختراع سيارة تتوقف عند سرعة 70 كيلو ولا تتجاوزها، لأن عمرو ابنها يعشق السرعة عند قيادته لسيارته.

فهل حقاً كان «مكشوف عنها حجاب» أو وصلت إلى حالة من الروحانيات تسمح لها بتوقع الغيب؟

المؤكد أن صور ابنها التي تزين كل ركن في منزلها محفورة في عقلها ووجدانها ولن تبرحها أبداً، فيما تردد دوماً:

- أعرف أنه ينتظرني على باب الجنة.

فيما صمتت لثوانٍ مرت كالدهر قبل أن تنطق قائلة:

رفقا بقلبي أيها الحاكي

في نشوة للقياه

كيف أنساه ونبض قلبي طيفه في خاطري دوماً

ذكراه تسري في أعماقي ليتني كنت ألقاه

ما زال ينبض بذكراه

وصوته في أذني..

كانت هذه مجموعة من ضمن خواطر كتبتها في رثاء ابنها.

تقول: {كنت كلما هاجمتني الذكرى، وشعرت بالوحشة ألجأ إلى الورقة أفرغ عليها أحزاني، أناجيه بكلماتي، لا أرثيه ولكني أكتب إليه، أحادثه وكأنه يسمعني، فما أقسى أن ترى أم جثة ابنها ساكنة لا تتحرك، ولولا إيماني بالله لما تماسكت حتى هذه اللحظة، ويقيني بالله أنني سألقاه في الجنة ينتظرني على بابها، وفقاً لما أخبرتني به شخصية دينية معروفة، عندما علمت أن ابني راح ضحية حادث سيارة، أنه سيكون شفيعي وسينتظرني على باب الجنة كونه من الشهداء}.

تتابع: {ربما المولى، عز وجل، دبر طريقة وفاة ابني على هذا النحو ليكون سبباً في دخولي الجنة، وربما لو كان على قيد الحياة كان من الممكن أن يقدم على تصرفات خاطئة أحاسب عليها أمام رب العالمين، لذا، من منطلق إيماني أشعر بالراحة النفسية، فلو علمتم الغيب لاخترتم الواقع}.

تصمت ثم تضيف: {هكذا أحاول إقناع نفسي، أنه في رحلة طويلة في الخارج وأنني سألقاه في وقت لاحق طال أو قصر}...

تقول: {عندما انفصلت عن الفنان محمد فوزي تنازلت له عن كل حقوقي، ولم أطلب منه شيئاً سوى ابني عمرو، لأنه كان كل حياتي وسيظل رغم رحيله، والحمد لله لم أشعر بالتقصير يوماً في حق ابني لحرصي الشديد على إحداث توازن بين عملي وبينه}.

كانت أنفاسها تتصاعد ومن جهتي اجتهدت ألا تتلاقى عيوننا حتى أترك لدموعها فرصة للتحرر...

تابعت: {الحمد لله ربيت عمرو على أسس سليمة، وكان مشغولا بدراسته الجامعية ورياضة الكاراتيه التي حصل من خلالها على بطولات وجوائز، وعمل مدرباً للكاراتيه في نادي الجزيرة الرياضي، وتدرب على يديه جمال أنور السادات، وحرص على أن يتعامل برجولة ويتحمل مسؤولية نفسه وألا يرهقني بطلباته، فمثلا كنت أعطيه مصروفه الشهري، فأجده يرتدي قميصاً جديداً، فأساله عن مصدر المال، فيخبرني أنه اشتراه من مصروفه، لأنني لست مطالبة، برأيه، بتلبية رغباته الإضافية ما دمت أعطيه مصروفاً}.

تستطرد في ذكرياتها مع الابن الراحل قائلة: {أثناء سفره إلى بريطانيا استأذن للبقاء هناك لعشرة أيام أخرى، وكأي أم قررت أن أرسل له مبلغاً من المال مع أحد الأصدقاء، تحسباً لأي ظروف، وخشية أن يكون بحاجة إلى المال ولم يخبرني، غير أنني فوجئت به لدى عودته يهديني معطفاً وملابس أخرى باهظة الثمن، وعندما سألته من أين حصل على ثمن هذه الملابس، أخبرني أنها من المبلغ الذي أرسلته إليه، وعلمت منه، أيضاً، أنه عمل في أحد الأندية الرياضية هناك ليوفر مبلغ مئة جنيه أسترليني ليشتري بها جهاز ستريو كان يرغب في اقتنائه، ما يؤكد أنه كان فعلاً رجلاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وحريصاً على إسعادي دوماً بتصرفات بسيطة ولكنها كانت لها معانٍ وقيمة كبيرة عندي. أتذكر، مرة أخرى، أنه دعاني إلى مرافقته لحضور إحدى حفلات رأس السنة مع أصدقائه، وأصر على أن أكون حاضرة وسطهم، فمازحه أحد أصدقائه قائلا له: {حد ياخد مامته معاه في حفلة رأس السنة}، فرد قائلا: {لو مامتكو مديحة يسري وزي القمر كده حتخرجوها معاكو ولا لا؟}، فردوا جميعاً: {أكيد طبعاً}.

بصدق، كانت بيننا صداقة كبيرة وكان يحكي لي أدق تفاصيل حياته حتى أسراره العاطفية، وفي كل عيد ميلاد له كان يحرص على أن نحتفل به سوياً ونبدأ الاحتفال بأغنية {يا نور جديد في عيد سعيد... ده عيد ميلادك أحلى عيد}، التي غناها لي محمد فوزي في نهاية فيلم {قصة حب} (1951) الذي شهد ولادة قصة حبنا، وبعدها يطلب مني مشاركته الرقص.

عمرو كان متميزاً في رياضة الكاراتيه، كما أشرت سلفاً، وفعلاً حصد بطولات، والمركز الأول في مصر لمدة أربع سنوات متتالية، وكان يطلب مني ألا أحضر البطولات التي يشارك فيها، كي لا يتسبب حضوري في خسارته، لأنه كان يرتبك من حضوري ويفقد تركيزه لمتابعة ردود فعلي على أدائه، لذا كنت أحضر، لكنني اختبئ خلف الملعب أو في مكان لا يراني منه، لمتابعته وكي ألتقط له صوراً تذكارية، وبعد المباراة أخبره بحضوري}.

تتابع: {كانت نقطة الخلاف الوحيدة بيني وبينه ولم أستطع إقناعه بالعدول عنها هي سرعته في قيادة السيارات، وعندما نشرت الصحف نبأ المأساة التي وقعت لابني كتب كمال الملاخ أنه، للمرة الأولى، يستمع إلى أم تنعي ابنها قبل رحيله، فقد استمع إلى حديث لي في الإذاعة قبل رحيل عمرو بأيام قليلة، ذكرت فيه أن أمنيتي الوحيدة هي اختراع سيارة لا يستطيع قائدها زيادة سرعتها عن 70 كم في الساعة، كنت أعبر حينها عن خوف دفين من غيب طردته من مخيلتي، إلا أنه تحول إلى واقع كئيب كتب عليّ معايشته طوال هذه السنوات... وحيدة بين صوره ومتعلقاته}...

غياب وعودة

بعد وفاة ابنها اعتزلت مديحة لما يقرب من عام، كانت علاقاتها محدودة بمن حولها، قبل أن تتجاوز الصدمة وتعود إلى تقديم برامج للمرأة والطفل لصالح إذاعة مونت كارلو وبعض الإذاعات العربية، وإلى السينما بعد ما يقرب من سبع سنوات عبر فيلمي {الرقص مع الشيطان} و{الإرهابي}.

بين العودة والاعتزال والعودة مجدداً، يمكن التوقف أمام خمس شخصيات جسدت فيها مديحة صوراً مختلفة للأمومة بنضج الممثلة القديرة، كما يقول الناقد نادر عدلي في كتابه {سمراء النيل}، فظهرت في الفيلم التلفزيوني {أيوب} أمام عمر الشريف في دور أم من أصول اجتماعية فقيرة تتحول إلى سيدة مجتمع بعدما أصبح زوجها من رجال الأعمال الأثرياء، لكن هذا الزوج الذي جمع ثروته من عمليات مشبوهة يقرر كتابة مذكراته ليكشف حقيقة كل من حوله بعدما أصابه الشلل، وتحاول زوجته منعه من الإقدام على هذه الخطوة منعاً للمشاكل، وفي الوقت نفسه ترفض أن تزوج ابنتها من شخص فقير، فهي تجسد شخصية سيدة وأم لا تريد أن تتذكر ماضيها وتعيش حياة الثراء والمجتمع الارستقراطي حتى على حساب أمومتها.

أما في {الخادمة} فتؤدي شخصية الأم التي تدلل ابنها الشاب وتخضعه لسيطرتها بعد وفاة والده، وعندما تأتي إلى البيت خادمة تنجح في محاولتها الارتباط به ليتزوجها، وتصبح الكلمة الأولى والأخيرة لها، فتصاب الأم بصدمة عصبية نتيجة تحول ابنها. ويعتبر دورها في فيلم {لا تسألني من أنا} أحد أبرز أعمالها رغم صغر مساحته درامياً، إذ جسدت شخصية سيدة اشترت طفلة حديثة الولادة من خادمتها مقابل تكفلها بمصاريف تعليم باقي أولادها، وعندما يحصل أبناء الخادمة على شهادات جامعية يطلبون منها الكفّ عن خدمة السيدة الثرية، لكنها ترفض لتظل إلى جوار ابنتها، فظهرت في شخصية السيدة التي تعوض أمومتها المفقودة عبر تربية ابنة بالتبني.

كذلك جاء دور الأم الذي قدمته في فيلم {الرقص مع الشيطان} مختلفاً عن أدوارها السابقة، فأدت شخصية أم لشاب درس في الاتحاد السوفياتي وعاد لا يؤمن بأي شيء سوى العلم وما يراه في المعمل، وفي المقابل تدعو له أمه في كل صلاة أن يهديه الله. يتطرق الفيلم إلى فكرة الصراع بين الدين وبين العلم، فكان دورها أشبه بالرمز، تعبر عن الإيمان في مواجهة جنوح ابنها بالعلم والمعمل بوصفهما مصدر الحقيقة.

أما الفيلم قبل الأخير الذي قدمته في السينما فكان {الإرهابي} (1994)، جسدت فيه شخصية أم من طبقة متوسطة ربت أولادها الثلاثة حتى أصبح لكل منهم حياته وشخصيته الناجحة، وعندما يدخل متطرف وإرهابي يكفر المجتمع ويستخدم العنف في حياته إلى الأسرة ويضطر إلى الإقامة معها بعد تعرضه للإصابة من إحدى بناتها، يكون حنان الأم الذي يلمسه فيها سبباً محورياً في تغيير معتقداته، ويكتشف أن هذه الأسرة ليست كافرة كما أوهمه أمير جماعته، فتنجح في نقل القيم والسلوكيات الجيدة إليه وتغير مجرى حياته.

دخلت مديحة مرحلة جديدة لم تجد فيها ما يناسبها سينمائياً، بعد انتشار أفلام المقاولات وتراجع تقديم الأعمال الجيدة، فلجأت إلى الدراما مع غيرها من النجوم، وقدمت مسلسل {هوانم غاردن سيتي}، الذي حقق نجاحاً، ثم رشحها المخرج أحمد النحاس لتجسيد شخصية أم المصريين صفية زغلول في مسلسل {الوسيمي}، الذي تمحور حول بداية القرن الماضي والشخصيات السياسية التي عاشت فيه، فتحمست للعمل ووافقت عليه كونه بمثابة فرصة لتجسد شخصية خالدة في التاريخ المصري.

لم تكن مديحة يسري قد عرفت الطريقة العشوائية في التصوير، كما يحدث أحياناً، وهو ما تنتقده بشدة وتأخذه على بعض الأسماء في الأجيال الجديدة والتي أتيح لها العمل معها، فحرصت على التحضير لشخصية أم المصريين بشكل جيد، فالتقت بشخصيات وفدية لمعرفة المزيد عن هذه الفترة، والتعرف إلى دور السيدة صفية في ثورة 1919 وعلاقاتها بباقي السيدات، أمثال هدى شعراوي، وخروجهن للمرة الأولى في تظاهرة ضد الاحتلال الإنكليزي، كذلك اتصلت بصديقتها الكاتبة نعم الباز التي أرسلت إليها كتيباً يضم كلاماً للكاتب مصطفى أمين حول طبيعة الحياة في بيت الأمة.

تقول مديحة: {شخصية المرأة المصرية القوية التي أثرت في التاريخ تعرضت للظلم فنياً، فلم تُقدم بشكل جيد، لذا عندما سنحت لي فرصة تقديم شخصية أم المصريين لم أتردد، لأنها ثرية على المستوى الدرامي، وشاركت في صنع التاريخ المصري المعاصر}.

التزمت مديحة بمواعيد التصوير حتى انتهت من العمل، وقررت السفر إلى الإسكندرية للاستجمام كعادتها على شاطئ المعمورة، وخلال متابعتها نشرة التاسعة مساء للاطلاع على ما حدث سياسياً على مدار اليوم، سمعت اسمها!