يومها كان عمري خمس سنوات.. مُقرفصًا بجانب أمّي الجالسة أمام التاوة تخبز الرقاق، رغم حرارة النار كنتُ ألتصق بها وأتلذّذ بطعم الخبزة التي تدهنها لي بالسمن (العداني) وترشّها بالسّكر. وكعادتها تظلّ تُسلّيني بحكاياتها وغناويها الحلوة، كنّا سعيديْن لكنّ سعادتنا سرعان ما تعكّرت حين اندفعت صفية من الدهليز بثوبها الكركميّ المشجّر لاهثة وقد ابتلع الهلع لون وجهها وأبي يركض بإثرها مسعورًا بصراخه وزبد فمه المتطاير.

ارتمتْ صفيّة قرب أمّي لتحتمي بها لكن أبي انتزعها بعنف وهي تصرخ:

Ad

يُمّه الله يخليكي فكّيني منه.

لا حول ولا قوّة لأمّي غير الرجاء:

الله يهديك يا بو هلال أترك البنت.

لكنّه تمكّن منها. حملها وهي تعافر بين يديه، وبقلب انقشعت منه الرحمة ألصق قدميها على التاوة المُستعرة بنارها حتى فاحت رائحة شوائهما وصراخ أختي يستعر.

لن أنسى فظاعة ذلك المشهد، أذكر كيف التصقتُ بالجدار مرتعدًا أشهق بدموع قلبي المرعوب المُتمزّق شفقة عليها.

ألقى بها على الأرض، سارعت أميّ إليها وصوتها الخفيض يترقرق بدموعها:

يا ويلك من ربّ العالمين.

لعلع صوت أبي المكروب:

كم مرّة قلت لكِ لا تتركيها تخرج إلى الشارع؟

أمّي تحاول أن تهدّئه:

خلاص... ما يصير خاطرك إلاّ طيّب.

ردّ أبي وهو يُعدّل وضع غترته:

لا طابت حالك أنت وبنتك، والله لو خرجت سأقطع رجلها من عرقها.

احتضنت أمّي صفيّة وصوت أبي يناديها:

كلّ الخراب منكِ.. الولد في حضنك والبنت (هايتة).

برّرت أمّي:

أنا طلبت منها أن تكنس الدهليز. ما أدري أنّها خرجت.

سخر أبي منها:

تكنس الدهليز! كانت في الشارع تعلب مع الصبيان وتُقوقئ مثل الدجاجة.

قبل أن يلوي خارجًا اقترب منّي وعصر أذني:

وأنت يا (الدثوي)؟ ليش ما تحطّ بالك على أختك؟

لم يعجب أمّي نفيره بوجهي:

هذا جاهل ماذا سيفعل؟

زاد غضب أبي:

اليوم جاهل... باكر يكبر، من الآن لازم يتعوّد أن يكون رجلاً.

خرج... تركنا غاطسين في وجعنا.

***

هرعت أمّي إلى برمة الماء، عبّأت طشتًا وأسقطت قدمي أختي وهي تنوح وتزفر:

حسبي الله عليك ونعم الوكيل.

ثم انفلتت بغضبها إلى صفيّة:

تستاهلين يا العنيدة كم مرّة عاقبك ولا تتوبين و...

لم تكمل... شرقتْ بدمعها، سحبت ملفعها وشقّته بأسنانها فتطاير منه رذاذ الطحين. جفّفت قدمي أختي. أمسكت بالحويتة التي تدهن بها التاوة ومرّرتها على قدميها ثم لفّتهما بالملفع وحملتها إلى غرفتنا وأنا أتبعها، وضعتها فوق الفراش وهي تؤنّبها:

شُفت عمايلك؟ حبستِ روحك بهذه الفعلة، شوفي عاد متى تطيبين!

عادت أمّي لتكمل خبيزها، رأيتها تكرف جلد أختي الذي ما زال يتكرمش على سطح التاوة وتفوح راتحته. ازداد ذرف دموعي، حقدت على أبي الذي بطش بأختي وبحرقة قلبي:

إن شاء الله ينحرق في نار جهنّم.

تركتُ أمّي بأساها وذهبت إلى صفيّة. ارتميت بقربها، ألقيتُ برأسي في حضنها أبكي وأتوسّلها:

الله يخليكي صفيّة لا تطلعين الشارع.

قأقأت بدموعها:

أنتَ ما تشوف؟ كيف أطلع ورجلي محروقة؟

أقصد بعد أن تطيبي لا تطلعي.

هزّت رأسها:

إن شاء الله... خلاص.

تلك الليلة خمدت النار في موقدها، لكنّها لم تخمد في قدمي أختي ولا في قلبي وقلب أمّي.

***

لم تكن المرّة الأولى التي يعاقب بها صفيّة... كم مرّة رفع قدميها وجحّشهما بالعصا حتى تورّمتا، كنتُ في كلّ مرّة أحسب أنّ صفيّة ستتوب. لكنّها ما إن تبرأ جراحها حتى تلبّي نداء الشارع، تشدّني من يدي لأخرج منها فأخاف:

وإذا شافك أبي؟

لن يشوفني، أنت تقف عند رأس الشارع وإذا شفته تعال بسرعة ونبّهني لأدخل.

كنتُ أحبّ صفيّة كثيرًا، كانت تقوم مقام أمّي المشغولة دائمًا، هي التي تُحمّمني وتطعمني وكثيرًا ما تلاعبني (الكوكسه واحديّة بديّة). (تعكّني) على ظهرها وتدور بي في الحوش حتى ندوخ. وتمنحني نصيبها من الحلويات. وفي الليل تحازيني حتى أنام. كانت حنونة، إن بكيتُ بكت وهي تجفّف دموعي. كنت أحبّ أن تخرج لتلعب وترتاح من شغل البيت الذي تكلّفها به أمّي، كثيرًا ما رأيتها مُهوّشة الشعر تكنس الحوش وتغسل المواعين، كنت أخرج معها رغم خوفي عليها، لا لألعب بل لأكون لها الحارس المُتيقّظ لأحميها من أبي.

كنتُ أرى كلّ البنات يلعبن في الشارع، فلماذا يمنع أبي صفيّة.

سألت أمّي فقالت:

أختك غير كلّ البنات (بازع) ولا تلعب إلاّ مع الصبيان.

رغم طفولتي كنت أستغرب، ما الذي يجعلها تحبّ اللعب مع الصبيان.

العائلة

تأخّر حمل ثاجبة... ثم جاءت البنت... وبعد انتظار ثلاث سنوات جاء الولد. كان الحمل مُتعبًا والولادة صعبة، نزفت خلالها نزفًا شديدًا ثم أقفر رحمها. اكتفى الزوج بالولد والبنت لكنّ الزوجة ظلّت تلحّ عليه:

إن كنتَ ترغب في المزيد من الأولاد فمن حقّك أن تتزوج.

لم يُبدِ رغبة في الزواج ولا في المزيد من الأولاد. لكن لسانها لم يجفّ عن الإلحاح إلاّ حين هدّدها:

إذا تزوّجتُ أطلّقك، لا أقدر على حُرمتين.

أسكتها التهديد واطمأنّت أنّها ستكون الزوجة الوحيدة.

في أحد الأحياء الفقيرة في شرق عاشت العائلة الصغيرة. الأب (عيسى بن نايف)، رجل نحيل طويل القامة، حنطيّ اللون له عينان مستديرتان غير حنونتين، شفتان غليظتان ترتاحان تحت أنف منفرج. يعمل قفّاصًا في أحد الأسواق الضيّقة، محلّ صغير ورثه من أبيه الذي كان حريصًا أن يصحبه إلى المحلّ ليتعلمّ المهنة ويرثها. لم يحرمه الذهاب إلى المُلاّ ليحفظ القرآن ويختمه. كان يُشجعه ويعطيه ربع (روبيّة) فيسرع إلى الدكّان ليشتري الحلوى والنقل ويلعب الكرة مع أقرانه من الصبيان. مات أبوه وهو في السادسة عشرة من عمره. كان قد أتقن الصّنعة وتولّع بها فحلّ مكان أبيه وتفانى في عمله الذي يدرّ عليه رزقًا يُرضيه.

يجلس على حصيرته طوال النهار يعمل بنشاط. يشبك جريد النخل بثقبه وإدخال أطرافه بتلك الثقوب. صار له زبائن كثر لدقّة صناعته وجمال نقوشها وكثُرت طلباتهم. هذا يريد ركوكًا للتمر، وهذا يريد قفصًا للطيور، وآخر يشتري المكانس ويوصيه على سفرة كبيرة للأكل، وكثيرون يطلبون المهاف أو الأطباق الصغيرة المزخرفة، والبعض يأتي ليتسلّم أغراضه ويدفع ثمنها.

***

الأمّ (ثاجبة) بنت رشدان الحوّاي جميلة ذات عينين واسعتين، وأنف كسلّة السيف، وخدّين مُمتلئين على الأيمن ندبتان صغيرتان من أثر الجدري. خطبتها له أمّه، أحبّ أوصافها لكنّه لم يحبّ الاسم (ثاجبة) فكان يناديها (ناجية) وحين يغضب منها لأيّ سبب يقفز اسمها الحقيقي على لسانه وكأنّه يعاقبها.

حين مرّت شهور ولم تحمل، ظنّت أمّه أنّها عاقر. أشفقت على ولدها وعرضت عليه:

أزوّجك غيرها.

لكنّه كان مرتاحًا بالعيش معها فرفض:

هذه قسمتي ونصيبي.

بعد سنة وشهرين جاءته بشارة حملها. فرح وتمنّى ولدًا... لكنّ البنت خيّبت أمله. سألته ثاجبة:

ماذا تريد أن تُسمّيها؟

أجاب وهو مهموم:

لو كان ولدًا لسمّيته.. سمّيها أنت.