خلال زيارتي لدمشق في الأسبوع الماضي رأيت بنفسي كيف انهمك عمال الإغاثة المحليين والدوليين في عمليات بطولية خطيرة انطوت في معظمها على إنقاذ أرواح مواطنين سوريين، وعلى أي حال فإن عمليات إجلاء المدنيين من بعض أحياء مدينة حمص لن تضع حداً لانتهاكات الكرامة الإنسانية المستمرة التي تحدث أمام أعيننا، ومن بين الأعداد الغفيرة من المدنيين المحاصرين في سورية، فإن 99 في المئة منهم موجودون خارج حمص.

Ad

 وقد أعاد النزاع في سورية عقارب الساعة إلى عقود سحيقة في ضوء الأوضاع الإنسانية المزرية، وإذا كان مجلس الأمن الدولي عاجزاً عن الاتفاق بشأن قرار أولي ورئيسي حول إيصال المساعدات الإنسانية، فإن المستقبل سوف يكون أكثر قتامة.

نحن نشهد في سورية الآن ارتداداً إلى أسوأ لحظات التسعينيات من القرن الماضي. إنها أهوال حروب البلقان وإفريقيا الوسطى تعود من جديد، لكنها في تلك المرة من دون حكومات، أو وسائل إعلام، أو رأي عام يشعر بالخجل للسماح بحدوث ذلك.

في التسعينيات كنت أحد العاملين في مجالات الإغاثة، وشهدت آنذاك كيف كان زملائي العاملون في مجالات الإغاثة الإنسانية يستهدفون بشكل منهجي ويتعرضون للقتل أثناء محاولاتهم المستميتة لإنقاذ المدنيين، وقد أطلقت تلك الحروب شرارة غضب عالمية عارمة على المستويين العام والسياسي، وحقق الصحافيون إنجازات لافتة ومشهودة عبر تغطياتهم اليومية لأحداث مدينة سراييفو المحاصرة، كما أعلن السياسيون والدبلوماسيون أنه لن تكون هناك بعد الآن "المزيد من سربرينيتشا" و"لا المزيد من مذابح رواندا".

بدأت أصدق تلك التصريحات شديدة اللهجة التي تقول إن مثل هذه المذابح الوحشية "لن تتكرر مجدداً"، ولن يسمح لمرتكبيها الإفلات دون عقاب.

 وعلى الرغم من النكسات التي وقعت في مناطق أخرى مثل دارفور وأفغانستان والعراق فقد تحقق قدر كبير من التقدم يستحق الإشادة، وقد حققنا حضوراً إنسانياً وفعالية أكبر وخفضاً في معدلات الوفيات وتحسنا في علاج سوء التغذية، وتقدماً ملموسا في متوسط العمر المتوقع للفرد ومستويات التعليم في مناطق النزاعات والكوارث... ثم غدت الحروب أقل عدداً وهلاكاً.

وتأتي الحرب في سورية لتهدد في الوقت الراهن بمحو هذا ذلك التقدم الكبير الذي تحقق على مدار جيل كامل وإزالته.  من كان يظن أنه عام 2014 سيشهد تعرض 3 ملايين مدني للتشريد بحيث يتلقون إغاثة غير منتظمة ومتقطعة ومن دون حماية، في حرب يفوق ما تحصده من أرواح كل أسبوعين ما سجلته النزاعات في أفغانستان أو دارفور خلال سنة؟

من كان يظن أننا سوف نشهد الناس تجوع في المدن المحاصرة من دون مساءلة القادة العسكريين والسياسيين المسؤولين عن ذلك؟

لعل السؤال الذي يحير العقل بقدر أكبر هو: أين الغضب الذي شهدناه كلنا خلال حقبة التسعينيات من القرن الماضي؟ الحشود لا تنطلق في الشوارع، ولا حملات لجمع أموال.

وها قد أخفقنا نحن العاملين في مجال المساعدات الإنسانية في توضيح أن هذا النزاع ليس، كما يعتقده البعض، أشرارا يقاتلون أشراراً، إنها قصة سورية التي فيها أعداد كبيرة من الأشرار الذين يقتلون ويهجرون أكثر من 9 ملايين من المدنيين الطيبين جداً- في حين بقية دول العالم، باستثناء جهود الإغاثة الطارئة، تقف إما موقف المتفرج السلبي وإما الداعم النشط لإذكاء الصراع.

"الأشرار" في كلا الجانبين لا يفتقرون إلى السلاح لمهاجمة المدنيين أو محاصرتهم، ولدى جيش النظام السوري ومجموعات المعارضة الأشد تطرفاً قدرة الوصول إلى إمدادات السلاح والدعم الآخر من دول أعضاء في الأمم المتحدة في كل شهر. والوصفة اللازمة لاستعادة جيل كامل من التقدم الإنساني يتعين أن تتمثل بقيام مجلس الأمن الدولي بالضغط على كل الأطراف من أجل وقف انتهاك القانون الدولي الأساسي.

فعندما تضغط روسيا وإيران فقط وبشكل حقيقي على النظام مع ضغط مقابل على المجموعات المتشددة المسلحة المعارضة من جانب دول الخليج، يمكننا وقتذاك إنهاء هذا السقوط الإنساني الحر.

في حقبة تعود إلى عام 1864 أقنع مؤسس الصليب الأحمر هنري دنانت دبلوماسيي العالم بتبني معاهدة جنيف الأولى التي تنص على حصول كل المرضى والجرحى في ساحة المعركة على حق الإغاثة الطبية تنقذ حياتهم، حتى ذلك التقدم، الذي يرجع إلى 150 عاماً خلت للإنسانية والتحضر، قد جرى عكسه ووأده في سورية، حيث حرم الأطباء بصورة منهجية من الوصول إلى الجرحى، كيف أمكن حدوث ذلك كله؟