أبدلتُ لباسَ الشورت النهاري، وقد تمكّن البقُّ الشرس من الساق العارية، بالبدلةِ القطنية الخفيفة، واتجهتُ مع الساعة السابعة إلى دار الأوﭙرا في قلب مدينة ﭙَيْزرو الساحلية. لي موعدٌ هذا المساء مع أوﭙرا "حلاق أشبيليا" لروسّيني، أبرع قممه الكوميدية. حين ألف روسيني هذه الأوﭙرا، وهو في الثلاثين من عمره، كان قد التقى بيتهوﭬن الذي بلغ الواحد والخمسين عاماً، مطبقَ الصمم، بالغَ التوتر ومريضاً. ولكن حاله لم تمنعه، حين رأى الموسيقي الشاب، من أريحية مخاطبته كتابةً: "روسّيني! إذن أنت مؤلف حلاق أشبيليا. أُهنئك. سوف تظل أوﭙراك هذه تُعزفُ ما بقيت الأوﭙرا الإيطالية. لا تحاول أبداً أن تكتب غير الأوﭙرا الملهاة؛ أي نمط آخر غير الملهاة سيكون مُقحماً على طبيعتك". ولقد صدق الموسيقي العملاق، فحلاقُ أشبيلية واصلت الحياةَ على برامج العزف الأوﭙرالي في كل مكان في العالم، حتى اليوم. لكنه تطرف قليلاً في نصيحته بتجنب الأوﭙرا المأساة. فلروسيني من هذا النمط أعمال لا تقل حيوية عن كوميدياته، مثل "وليم تل"، "موسى وفرعون"، و"سميراميس".  

Ad

أعمالُ روسيني الأساسية تنتمي إلى نمطٍ موسيقي يُسمى "بيل كانتو" (ويعني بالايطالية "الأغنية الجميلة")، بفعل انصراف هذا الفن إلى الأداء المتفوّق في الأغنية التي تؤديها الحنجرة، وخاصة طبقة السوﭙرانو، والميتسو - سوﭙرانو النسائيتان. وأوﭙرا "حلاق أشبيلية" (1816) نموذجٌ أمثل. عادة ما تُقرن هذه الأوﭙرا بأوﭙرا موتسارت "زواج فيـﮔارو"، لأن حكايتهما ذات صلة، ومؤلفهما واحد، هو الفرنسي "بيومارشيه". تتحدث القصة عن "الكونت ألماﭬيـﭬا" الذي يحب "روسينا"، وهي تحت رعاية الدكتور "بارتولو"، الذي يطمع في الزواج منها. الكونت يتنكر بشخص "لِندورو"، مستعيناً بـ"فيـﮔارو" (حلاق أشبيلية)، وبـ "روسينا" لمخادعة بارتولو. وتتم هناءة الجميع في النهاية، لكن عبر تفاصيل كثيرة تزدان بحلاوة موسيقية لا تُنسى.

جميع الذين أسهموا في أداء الأدوار من المغنين بلغوا غاية التفوق (يمكن مراجعة الأسماء في موقع المهرجان على الإنترنت)، واحتفظت أغنيةُ روسينا "ثمة صوت الآن،/ يتردد في قلبي..."، وأغنية فيـﮔارو: "فيـﮔارو هنا، فيـﮔارو هناك..." بتألقهما، باعتبارهما أبرز أغنيتين في العمل. والإخراج لم يُقصر المغنين على خشبةِ المسرح، بل فتح لهم قاعةَ الجمهور، بما فيها من كراسٍ وممرات يؤدون فيها أدوارهم على هواهم.

الأوﭙرا الثانية التي شاهدتها في اليوم التالي هي تراجيديا "أوريليانو في بالميرا"، مستوحاة من حكاية الصراع الخيالية بين الإمبراطور الروماني أوريليانو والأمير الفارسي أرساسِس، أو أرشاك، حول زنوبيا (أو الزباء) ملكة بالميرا أو تدمر السورية. وهذه الحكاية، شأنَ معظم حكايات فن الأوﭙرا، تخفي التاريخَ الكالحَ الألوان بفرشاة الفن الملونة. فالتاريخ كما نعرفه يتحدث عن زنوبيا التي حكمت بعد وفاة زوجها وقصور ابنها الصغير، وأثبتت جدارة في القيادة وتوسيع إمبراطوريتها إلى لبنان وفلسطين ومصر، واقتيدت بفعل تحديها للسطوة الرومانية أسيرةً إلى روما، بعد أن ذُبح شعبها التدمري في سورية بأمر أوريليانو، وهناك ماتت، أو أُعدمت (أو عاشت تحت رعاية المعجب أوريليانو كما تجتهد الروايات). في حين تتحدث الأوﭙرا عن قصةِ حبها المتبادل مع الأمير الفارسي وهي في غمرة انحسار سلطانها وانهزامها، وحبِّ الإمبراطور الروماني لها دون استجابة، وكيف حلّتْ رحمةُ وحكمةُ الإمبراطور على الجميع، فتركهم بسلام.

خرجت إلينا زنوبيا (السوﭙرانو جيسيكا ﭙرات) على المسرح بجلال جمالها وسلطانها بصورة بالغة التأثير، ولم يكن أورليانو ولا أرساسِس أقل تأثيراً، معزَّزين بديكور يشبه لوحةً في حلم لم تختفِ فيها خشونةُ الكانفس، تتحرك داخلها الكتلُ والخطوط بلون أرضي متفاوت الدرجات.

الرائع في هذا التقديم أيضاً أن مخرجَ الأوﭙرا لم يتركها تتحدث على هواها الحلو، دون أن يعرضَ لحقيقة التاريخ الدامية، فختم عالمَ الموسيقى والغناء بنص طويل على الشاشة، يُطلع الجمهور فيه على حقيقة ما فعله أورليانو بزنوبيا وبشعبها السوري، من ذبح وتنكيل.