يسعى أكبر تجمعين اقتصاديين في أميركا اللاتينية- تحالف منطقة الباسيفيكي (المحيط الهادئ) والسوق المشتركة للجنوب (ميركوسور)ـ إلى المزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي بطريقتين مختلفتين تمام الاختلاف، ونجاح أي من هاتين الكتلتين لا يتوقف على الاستراتيجية الفردية لكل منهما فحسب، بل على التكامل بين هاتين الاستراتيجيتين، أيضاً، ولن تتمكن المنطقة من التحول إلى لاعب عالمي كبير إلا إذا تحقق هذا التكامل.يمثل "تحالف المحيط الهادئ" (الباسيفيكي)- الذي يضم تشيلي وكولومبيا والمكسيك وبيرو- ما يقرب من 40% من الناتج المحلي الإجمالي في أميركا اللاتينية، بعد أن نما بمعدل سنوي 2.9% منذ عام 2000، أما اقتصادات "الميركوسور" الخمسة- الأرجنتين والبرازيل وباراغواي وأوروغواي وفنزويلا- فتمثل نحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة، وقد نما بمتوسط بلغ 3.4% تقريباً سنوياً خلال نفس الفترة، ولو أن النمو تباطأ منذ عام 2010. ولكن الإمكانات الكاملة لهذه الاقتصادات لم يطلق لها العنان بعد، فرغم أن تجمع "الميركوسور" كان ناجحاً نسبياً في تحقيق التكامل التجاري، حيث تمثل التجارة البينية داخل التجمع نحو 15% من إجمالي تجارة البلدان الأعضاء (وحصص أكبر من 25% للأرجنتين وباراغواي وأوروغواي)، فإنه فشل في تعميق تكامل أسواق السلع والخدمات.علاوة على ذلك، ورغم أن التجارة داخل "التحالف الباسيفيكي" لا تتجاوز 4%، فلم يبد زعماء البلدان الأعضاء طموحاً كبيراً في قمتهم في مايو، ففي حين اتفقوا على إزالة كل الرسوم الجمركية في الأمد القريب على 90% من السلع المتداولة، فإن المجموعة لم تحقق أي تقدم بعد نحو تأسيس قواعد مشتركة بشأن "تراكم المنشأ" (الذي تتعامل البلدان الأعضاء وفقاً له مع السلع التي تستوردها من غيرها من البلدان الأعضاء باعتبارها من إنتاجها).وليس من المستغرب أن يظل التحالف الباسيفيكي الذي أطلق في عام 2012 متأخراً خلف تجمع "الميركوسور" الذي بلغ من العمر عقدين من الزمان، عندما يتعلق الأمر بالتكامل التجاري وغير ذلك من أشكال التكامل، ولكن هذا لا يبرر فشله في إنتاج تدابير أكثر تماسكاً، خصوصاً إذا ما علمنا أن البلدان الأعضاء في التحالف هي البلدان الأكثر تقبلاً لتحرير التجارة في أميركا اللاتينية. والواقع أن بلدان التحالف الباسيفيكي أبرمت اتفاقيات للتجارة الحرة هي الأكثر تحرراً على الإطلاق واقتصاداتها من بين الأكثر تنافسية في المنطقة.أما البلدان الأعضاء في "الميركوسور" فهي على النقيض من ذلك تظل على تخوفها من تحرير التجارة، وهي أقل تنافسية إلى حد كبير باستثناء البرازيل (وبدرجة أقل أوروغواي). ونتيجة لهذا، أصبح التجمع على مدى الأعوام القليلة الماضية مصدراً للإحباط بشكل متزايد، حيث فشل في دفع عجلة التكامل، بل تراجع في بعض المناطق.الواقع أنه رغم بعض الإنجازات السياسية والاقتصادية فإن "الميركوسور" فشل إلى حد كبير في دعم "الإقليمية المفتوحة"- الترابط الاقتصادي والمزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي من خلال التحرير التفضيلي واتفاقيات إزالة القيود التنظيمية- التي اقترحتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي قبل عقدين من الزمان. ولم تنشئ البلدان الأعضاء في "الميركوسور" أي اتفاقية تجارة حرة تقريباً مع غيرها من البلدان، حتى الاتفاقية التي ظلت تتفاوض عليها لسنوات عديدة مع الاتحاد الأوروبي تظل بعيدة المنال، ويبدو أن هذا راجع إلى معارضة من جانب الأرجنتين.بيد أن "الميركوسور" أيضاً تشكل ضرورة أساسية لاندماج أميركا اللاتينية في الاقتصاد العالمي، ويرجع هذا في الأساس إلى أهمية البرازيل، الدولة المركزية في هذا التحالف، والتي لا يضاهي نفوذها وعلاقاتها الدولية أي من البلدان الأخرى في المنطقة. وإذا كان إنشاء "التحالف الباسيفيكي" يعكس تراجع الدعم للبرازيل بوصفها صوت أميركا اللاتينية الرائد في المجتمع الدولي، كما يبدو مرجحاً، فإن التقدم نحو التكامل الإقليمي، فضلاً عن الجهود المبذولة للتفاوض على المزيد من التكامل الاقتصادي مع بلدان منطقة آسيا والباسيفيك (أحد الأهداف الأساسية للتحالف)، سيكون أكثر صعوبة.وعلى هذه الخلفية، فإن المنافسة بين هذين التجمعين سوف تكون ضارة بالجميع، وإذا فشل "الميركوسور" و"التحالف الباسيفيكي" في ابتكار استراتيجيات تكميلية لعملية التكامل فقد تقرر دول أخرى أن التعاون مع "التحالف" فقط هو الذي قد يكون مجدياً، وهذا يعني تضاؤل أهمية "الميركوسور" بشكل أكبر، ولكن في غياب القوة الاقتصادية التي يتمتع بها تجمع "الميركوسور" فإن بلدان "التحالف الباسيفيكي" تصبح غير قادرة على توليد القوة اللازمة لدعم صعود أميركا اللاتينية على الساحة العالمية بقوة.حتى رغم النهج البنّاء، فإن تحقيق التكامل الاقتصادي الأكثر عمقاً وأعلى جودة مع الاقتصادات الناشئة في آسيا سوف يكون أمراً صعباً. إن صادرات أميركا اللاتينية إلى المنطقة التي تُعَد الآن الأسرع نمواً على مستوى العالم تتركز في السلع الأساسية، فعلى سبيل المثال، كان نحو 70% من صادرات أميركا اللاتينية إلى الصين في عام 2010 تتألف من السلع الأولية، ونحو 25% فقط منها كانت من السلع المصنعة من هذه المواد، وفي كثير من الأحيان بقيمة مضافة قليلة.وهذا من شأنه أن يسلط الضوء على مشكلة كبيرة بالنسبة إلى أميركا اللاتينية، فالبلدان الآسيوية، مثلها في ذلك كمثل الاقتصادات المتقدمة، تتبع نظاماً لتصعيد التعريفات الجمركية: فكلما كانت القيمة المضافة إلى السلع الأولية أعلى أصبحت تدابير الحماية أعلى. وعلى هذا فإذا كانت بلدان أميركا اللاتينية راغبة في تصدير سلع ذات قيمة مضافة أعلى، فإنها ستواجه تعريفات جمركية أعلى كثيراً، وهذا كفيل بتقويض قدرتها التنافسية في الأسواق الآسيوية.ومن هنا فإن اتفاقيات التجارة الحرة الشاملة تشكل ضرورة أساسية. ولكن رغم قدرة الاتفاقيات التجارية على توفير الفرص للمشاركة المتزايدة في سلسلة القيمة العالمية، فإن تأثيرها سيكون محدوداً في غياب السياسات الرامية إلى تحسين القدرة التنافسية وتنويع بنية الإنتاج، وسيعمل التعاون الإقليمي المتزايد على التعجيل بهذه العملية.إن التجمعات الاقتصادية في أميركا اللاتينية قادرة من خلال العمل معاً على توفير منصة بالغة الأهمية تستطيع من خلالها تحسين الاستقرار الاقتصادي المحلي، وزيادة قدرتها التنافسية، وتعزيز التكامل الإقليمي، واكتساب دور أعظم في الاقتصاد العالمي. ومن خلال الاستراتيجيات التنافسية الجريئة والمتناغمة يصبح بوسع "الميركوسور" و"التحالف الباسيفيكي" أخيراً تأمين مكانة أميركا اللاتينية باعتبارها واحدة من أكبر اللاعبين الاقتصاديين في العالم.* أستاذ في جامعة توركواتو دي تيلا وجامعة بوينس آيرس، وقد شغل سابقاً مناصب وزير الاقتصاد في الأرجنتين، ورئيس البنك المركزي في الأرجنتين، والأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات - زوايا ورؤى
عندما تتصادم التكتلات
24-10-2013