ما سر استمرار ضعف الاقتصاد العالمي؟ وهل يوجد ما يمكن القيام به من أجل تسريع عملية النمو؟ وبعد قرابة ست سنوات على ما يشبه الانهيار في النظام المالي العالمي وبعد أكثر من خمس سنوات على دخول الاقتصاد في واحد من أكثر الأسواق الصاعدة قوة في التاريخ لا يزال الجواب يحير صناع السياسة والمستثمرين وقادة الأعمال التجارية.

Ad

وقد طُرحت الأسبوع الماضي كمية كبيرة أخرى من الأرقام المحبطة والمخيبة من أوروبا واليابان، وهما الرابط الأشد ضعفاً في الاقتصاد العالمي منذ انهيار بنك ليمان براذرز، وعلى الرغم من كون الأزمة المالية اندلعت في الأصل في الولايات المتحدة، ولكن حتى في الولايات المتحدة وبريطانيا والصين، حيث بدا أن النمو كان يتسارع قبل حلول فصل الصيف، كانت أحدث الإحصاءات- مبيعات التجزئة المحبطة في الولايات المتحدة، وأكثر أرقام الأجور ضعفاً في بريطانيا والهبوط الأكبر في الائتمان في الصين منذ سنة 2009– تشير إلى أن التعافي ربما فقد زخمه.

وكما قال ستانلي فيشر النائب الجديد لرئيس مجلس الاحتياط الفدرالي في 11 أغسطس الجاري وفي أول خطاب رئيسي حول السياسة "سنة بعد أخرى كان يتعين علينا أن نفسر من منتصف السنة فصاعداً سبب أن معدلات النمو العالمي أقل من المتوقع قبل فصلين سابقين... ويمثل هذا النموذج من الإحباط والمراجعة الهابطة التحدي الأول والأساسي على لائحة القضايا التي تواجه صناع السياسة في التقدم نحو الأمام: استعادة النمو، إذا كان ذلك ممكناً".

الرسالة المركزية

الرسالة المركزية التي تضمنها خطاب فيشر– أن على المصرفيين المركزيين وكذلك الحكومات القيام بمحاولات أشد قوة مما قاموا به في السنوات الخمس الماضية من أجل دعم النمو الاقتصادي– كانت ما ردده بقوة حاكم بنك إنكلترا مارك كارني خلال مؤتمره الصحافي الفصلي بعد ذلك بيومين.

يجب ألا يكون هذا التناغم مفاجئاً: كان كارني أحد طلاب فيشر في معهد ماساشوستس للتقنية خلال حقبة السبعينيات من القرن الماضي، كما كان شأن ماريو دراغي رئيس البنك المركزي الأوروبي، وبسبب تأثير فيشر على الحكام الآخرين للمصارف المركزية إضافة إلى الخليط المتمثل بخبرته الأكاديمية والرسمية فقد يكون الآن الاقتصادي الأكثر نفوذاً في العالم.

  وعندما عينه الرئيس باراك أوباما نائباً لرئيس مجلس الاحتياط الفدرالي كان فيشر يعتبر أكثر اندفاعاً وتشدداً من رئيسة المجلس جانيت يلين، كما كان يعتبر قوة مقيدة لنزعتها الرامية إلى التركيز على الوظائف والنمو بدلاً من السيطرة على التضخم.

ولذلك يتعين على المستثمرين وقادة الأعمال التجارية الانتباه إلى ما جاء في خطاب فيشر الأول على شكل دعوة إلى سياسة نقدية أكثر جلاء نحو النمو، وهي دعوة يهتم بها غيره من حكام المصارف المركزية.

فقاعات التضخم

وقد أوضح كارني ذلك بجلاء عندما فاجأ الأسواق المالية بالكشف عن غياب أي قلق أو تخوف من فقاعات مالية أو تضخمية، بل إنه بدلاً من ذلك كرر سياسة معدلات الفائدة الخاصة ببنك إنكلترا الهادفة إلى جعلها "أدنى ولفترة أطول" مما توقعه أي شخص، وقد أزعج ذلك متداولي العملات الذين كانوا يشترون الجنيه الإسترليني على أمل أن تكون بريطانيا أول دولة كبرى ترفع معدلات الفائدة، وربما في موعد لا يتجاوز هذه السنة.

وحتى في البنك المركزي الأوروبي غدت الفكرة التي كانت محرمة والقائلة إن السياسة النقدية يمكن أن تستخدم من أجل تحفيز النمو مطروحة للنقاش بصورة مفاجئة.

وتجدر الإشارة إلى أن دراغي وعد بصورة لا لبس فيها في تصريحاته الأخيرة بإبقاء معدلات الفائدة لدى البنك المركزي الأوروبي عند نسبة الصفر لفترة أطول من خطة مجلس الاحتياط الفدرالي، ورحب صراحة بما سوف تفضي إليه هذه السياسة من إضعاف لليورو، ولم يصدر عن مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل أو البندستاغ أي انتقاد إزاء هذه السياسة التصالحية، وربما يرجع ذلك إلى كون الاقتصاد الألماني يبتعد عن تداعيات حرب العقوبات مع روسيا بسبب الأزمة في أوكرانيا.

ولكن ماذا عن فكرة فيشر المحبطة حول استعادة النمو "إذا كان ذلك ممكناً"؟

يقول العديد من الاقتصاديين في الوقت الراهن إن تلك السياسة لا تستطيع عمل المزيد من أجل تحفيز النمو أو الوظائف، وهي نظرة يتشاطرها العديد من الصناعيين ورجال المال والسياسة، ومن الواضح أن فيشر ليس ضمن هذه الشريحة من المشككين، وينسحب ذلك على كبار حكام المصارف المركزية الآخرين.

وعلى الرغم من اشتمال البيانات الرسمية من كبار صناع السياسة على مسوغات فإن جوهر خطاب فيشر كان واضحاً: استعادة معدلات نمو ما قبل الأزمة المالية يجب أن تكون ممكنة، ولكن شريطة أن يتم إصلاح السياسة الاقتصادية للتعامل مع ثلاث قضايا كانت تعتبر من المحظورات، وخصوصا من حكام المصارف المركزية.

تتمثل القضية الأولى بوجوب السماح للبنوك المركزية بترجمة أهدافها المتعلقة بالتضخم بصورة مرنة، بغية ضمان تحسين السياسة النقدية لفرص النمو إضافة إلى الحفاظ على استقرار الأسعار، وفي دعمه للدول الأوروبية المدينة التي تتصارع مع ألمانيا حول التفويض الحصري للبنك المركزي الأوروبي لمكافحة التضخم يصر فيشر على أنه "من الوجهة العملية حتى في الدول التي يستهدف فيها البنك المركزي وضع التضخم فقط فإن صناع السياسة النقدية يهدفون أيضاً إلى تحقيق الاستقرار في الاقتصاد الحقيقي ضمن مستويات طبيعية".

وتتمثل القضية الثانية بضرورة قيام صناع السياسة بالتمييز بين ضعف الطلب، الذي يرجح أن يكون مؤقتاً، وضعف نمو الإمداد الذي قد يكون هيكلياً، وفي الولايات المتحدة ينسب فيشر هذا الضعف في الطلب إلى الإسكان والعقارات وأوروبا والتعثر المالي.

 ويشير فيشر إلى أن كل تلك "الرياح المقابلة" يمكن أن تواجه بسياسات أفضل، وعلى سبيل المثال يمكن معالجة العقارات من خلال المساعدة على تفادي تكرار "الارتفاع الحاد في معدلات الرهن العقاري في منتصف سنة 2013"، وعملية عكس التباطؤ في أوروبا تتطلب إيجاد حل لأزمة اليورو، وفي ما يتعلق بالسياسة المالية، فإن الحل الواضح ببساطة هو التوقف عن زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق العام.

وفي القضية الثالثة يشير فيشر إلى أن بعض عقبات الإمداد التي تواجه النمو وتبدو هيكلية– مثل هبوط المشاركة العمالية وتدني الاستثمارات وضعف الإنتاجية– يمكن أن تنجم عن ضعف مؤقت في الطلب وليس نتيجة تغيرات دائمة في التقنية أو الطبيعة البشرية.

وفي رأي فيشر فإن الهدف المركزي للسياسة النقدية هو ضمان عدم ترجمة أي ضعف مؤقت في الطلب إلى خفض دائم في الإمداد من خلال تآكل عادات العمل وعدم تشجيع الاستثمار وإبطاء نمو الإنتاج، ويقول "توجد أخطار حقيقية إزاء تحول دورة الانكماش إلى سمة هيكلية، ويمكن عكس الهبوط أو منعه من التحول إلى صورة دائمة للسياسة الاقتصادية الضخمة الموسعة".

وفي ما يتعلق بفكرة استمرار هبوط نمو الإنتاج بسبب دنو أفكار التقنية من نهايتها يخلص فيشر إلى القول "من غير الحكمة التقليل من براعة البشر"، وقد يكون من غير الحكمة أيضاً التقليل من براعة حكام المصارف المركزية لأنهم عازمون حقاً على تحقيق نمو أسرع.

* أناتول كاليتسكي | Anatole Kaletsky