أطبق عينيه للمرة الأخيرة على رؤية طفلة ترقد تحت الأنقاض في غزة، تقاوم وحشية الموت، وتكابر بابتسامتها الواسعة وسع فلسطين، راسمة بيديها علامة النصر وكانت حشرجتها الأخيرة: تقدموا تقدموا، حينها أيقن سميح القاسم أن حياته لم تذهب هدراً وأن أشعاره ستقاوم حتى آخر حبة ثرى في فلسطين.

Ad

غيب الموت جسد الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم (1939 – 2014)  بعد معاناة مع مرض سرطان الكبد، فيما بقيت أشعاره وكلماته حاضرة طالما حضرت فلسطين، فهو صوت المقاومة في كل ربوعها، من يافا والجليل والقدس وغيرها، صاحب رفيق دربه محمود درويش وجالا في مدنها وقراها وأزقتها وشوارعها، قبل أن تختار المنافي درويش فيما يظل القاسم ملازما للديار شاهرا قصيدته:

تقدموا / تقدموا

كل سماء فوقكم جهنم / وكل أرض تحتكم جهنم

تقدموا / يموت منا الطفل والشيخ /ولا يستسلم / وتسقط الأم على أبنائها القتلى / ولا تستسلم  تقدموا/ وراء كل حجركف /وخلف كل عشبة حتف /وبعد كل جثة

فخ جميل محكم /وإن نجت ساق /يظل ساعد ومعصم /تقدموا

كل سماء فوقكم جهنم

وكل أرض تحتكم جهنم

تقدموا / لا خوذة الجندي / لا هراوة الشرطي/ لا غازكم المسيل للدموع / غزة تبكينا / لأنها فينا / ضراوة الغائب في حنينه الدامي للرجوع / تقدموا / من شارع لشارع / من منزل لمنزل / من جثة لجثة  / تقدموا/ يصيح كل حجرمغتصب / تصرخ كل ساحة من غضب /يضج كل عصب / الموت لا الركوع / موت ولا ركوع

تقدموا / تقدموا ...

شهد سميح القاسم كرفاق دربه الخيبات والمرارات العربية وعجز الأنظمة المتتالية عن صد العدوان الصهيوني ودحره، فيما هاجر من هاجر وابتعد من ابتعد، إلا أنه أبى أن يفارق أرض فلسطين، وظل مرفوع الهامة حاملا نعشه على كتفيه.

منتصبَ القامةِ أمشي

مرفوع الهامة أمشي

في كفي قصفة زيتونٍ

وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي....

قلبي قمرٌ أحمر

قلبي بستان

فيه العوسج

فيه الريحان

شفتاي سماءٌ تمطر

ناراً حيناً حباً أحيانا....

في كفي قصفة زيتونٍ

وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي....

صوت الحق والعدل

نعى رئيس دولة فلسطين محمود عباس، حسب وكالة الأنباء الفلسطينية، الشاعر ووصفه بأنه «صاحب الصوت الوطني الشامخ، رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء، وكرّس جلّ حياته مدافعاً عن الحق والعدل والأرض.

كذلك نعى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب برئاسة الكاتب محمد سلماوي، في بيان له، الشاعر العربي الكبير وجاء فيه:

«فقدت الأمة العربية شاعراً من أهم شعرائها المعاصرين، هو الشاعر العربي الفلسطيني الكبير سميح القاسم، الذي جعل صوته الشعري صوتاً لقضيته الوطنية، فكانت قصائده ودواوينه رسائل حق لكل الشرفاء في العالم، تعرّفهم بالقضية الفلسطينية، وتضع أيديهم على جراح شعب عظيم، احتلت العصابات الصهيونية أرضه منذ مائة عام، تحت نظر القوى الكبرى، وبمباركتها».

وأضاف البيان: «سميح القاسم واحد من نسل الشعراء العرب والفلسطينيين الكبار، وأيقونة من أيقونات الشعر العربي على مدار تاريخه، سوف تحفظه ذاكرة الشعر العربي دائماً وأبداً، لأنه مع رفاقه من شعراء فلسطين، وحّد بين القصيدة والقضية، فجسدها وارتفع بها وأعطاها صوتها، وصدّر للعالم إبداعها النقي الملهم الذي لا يموت، وهو الدليل على وجود الشعب العربي الفلسطيني الحر ورفعته، وأحقيته في أرضه وتاريخه ومقدساته وأمجاده... كل الكلام يعجز عن رثاء سميح القاسم الذي أخضع الكلام وأدخله طائعاً في قصائده، هذا الشاعر الذي لم يصنع تاريخاً لذاته فقط، بل صنع تاريخاً للشعر، ولأرضه القديمة العريقة، ولشعبه الصامد المقاوم البطل».

تراث هائل

نعى شعراء مصر وأدباؤها سميح القاسم، فقال الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة إن رحيل الشاعر العملاق الفلسطيني سميح القاسم صدمة كبيرة للحياة الفلسطينية والعربية، وخسارة كبرى للثقافة، لأن سميح القاسم أحد أبرز شعراء ستينيات الشعر الحديث والمعاصر.

 أضاف أبو سنة في تصريحات صحافية أن الشاعر ترك خلفه تراثاً شعرياً هائلا، وأكثر من 20 ديواناً، وحفر اسمه بالذهب في الشعر الحديث. كذلك رسم للقضية الفلسطينية وعبر عنها بأسلوب رائع ، كشف فيه عن موهبة شعرية، فهو رفيق رحلة الشاعر محمود درويش ولا يقل في القيمة عنه.

 وتابع: «أشعر بالحزن الشديد لرحيل الشاعر الكبير سميح القاسم لأنه كان قريباً من قلبي ونفسي، فهو له تاريخه الطويل مع القصيدة العربية والقضية الفلسطينية، والقضايا العربية الأخرى كلها، وكان يشاركنا في «معرض القاهرة الدولي للكتاب».

بدوره اعتبر الدكتور الناقد صلاح فضل أن رحيل الشاعر، خسارة كبيرة للشعر العربي، وسيظل إبداعه متألقاً في سماء القضايا العربية.

أضاف: «سميح القاسم أحد كبار الشعراء الفلسطينيين، تميز بتجربته الفلسطينية منذ صداقته المبكرة ورفقته الشبابية مع رفيق عمره الشاعر محمود درويش، حتى اختلفت بهما السبل فبقي سميح داخل الأرض المحتلة وخرج درويش ليحمل على كتفه مسؤولية القضية الفلسطينية في المنافي العربية».

 تابع: «تجربة سميح متنوعة إذ اشتملت القصيدة الغنائية والدرامية والمسرحية، وكان نفسه طويلا لإبداعه الشعري وتميزه وحرصه على العروبة»، لافتاً إلى أن علاقة الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم بالمثقفين العرب وفي مصر على وجه التحديد قوية ومستمرة، «منذ عدة سنوات  منحه اتحاد كتاب مصر جائزة للشعر، لتميزه في مشواره الإبداعي الطويل، وفي السنوات الأخيرة داهمته العوارض المرضية وانخفض صوته ولم نعد نسمعه، ولكن إبداعه وكلماته ستظل بيننا».