1. سامحتك

Ad

لم تكن «هالة» تعرف عن الحب أكثر مما قرأته في روايات إحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس، ونخبة من أدباء الشرق والغرب الذين برعوا في كتابة القصص الرومانسية، لكنها رفضت المغامرة أو التجربة أو حتى الاقتراب من نهر الحب مهما عذبها الظمأ، حبست قلبها في زنزانة انفرادية واكتفت بما تقدمه له من قصص العشاق إلى أن يظهر فتى أحلامها، أو هذا الفارس الذي يستحق عواطفها البكر، ولأجله رفضت عشرات العرسان الذين فشلوا في الوصول إلى هذا القلب السجين.

وذات يوم بينما كانت تشتري سيارتها الجديدة، فوجئت به يقف إلى جوارها، يتأمل السيارة، ويستمع إلى شرح وكيل الشركة، وإن كان يختلس بين لحظة وأخرى نظرة كانت مثل ومضة سريعة تبدد الظلام من فوق وجهها، لم تكن تعرفه سابقاً، ولا كان من أصحاب الوجوه المألوفة أو الملامح الجذابة، ومع ذلك اكتشفت هالة أنها مشدودة إليه، هزتها نبرات صوته، وشعرت باستسلام ورضوخ وخشوع كلما وقعت عيناه في عينيها، وفجأة اقترب منها وبدأ يحدثها ويطيل الحديث، بينما وكيل الشركة ينهي إجراءات الشراء لكليهما.

دق قلبها للمرة الأولى... شعرت «هالة» بالخطر الداهم، لم تسمح لرجل سابقاً بمثل هذا الحوار الطويل، ولا تلك النظرات الجريئة، بل لم تكن يوماً بهذا الضعف كلما حاولت أن تبتعد عنه تزداد قرباً من دون أن تتحرك من مكانها خطوة واحدة. أخيراً، أدركت أنه الفارس الذي حطم نظرياتها كافة وقلب أفكارها رأساً على عقب، حتى أيقنت أنها لم تكن هي التي اختارته وإنما هو الذي اختاره لها الزمن... حاولت إنهاء الحديث وفشلت... طلب رقم هاتفها فاعتذرت ثم ندمت... أعطاها رقمه فاستمسكت بالفرصة الأخيرة... استلمت سيارتها وأسرعت تغادر المكان قبل أن يدفعها قلبها المتمرد إلى تنازلات جديدة. عادت إلى بيتها وهي تنوي أن تؤدب هذا القلب الذي هرب من زنزانته وفقدت سيطرتها عليه.

لم تنم هالة ليلتها. لم تشعر بفرحة السيارة التي كانت تحلم بها. ظلت تتقلب في فراشها وكاد التفكير أن يعصف بها. هل تحدثه هاتفياً، أم تذهب إلى معرض رسوماته الذي دعاها إلى حفلة افتتاحه بعد يومين؟! ومع إشراقة الفجر اختارت الحل الأخير حفاظاً على كرامة الأنثى في أعماقها، يوم الافتتاح كانت هالة كعروس ليلة زفافها. لم تعد تراجع تصرفاتها أو تحسب ألف حساب كما اعتادت في المواعيد كافة التي كانت تذهب إليها.

مفاجأة غرامية

هناك داخل المعرض، وقفت مبهورة بأدهم الفنان الذي التفت حوله المعجبات من كل جانب، شعرت بالغيرة تمزقها كلما بالغت إحدى الحسناوات في إبداء إعجابها بإحدى اللوحات. لكن أدهم لم يهتم إلا بها... اقترب منها وأمسك يدها في جرأة لم تغضب منها هالة، جذبها برفق إلى إحدى اللوحات ثم همس لها بأنه قرر أن يهديها إليها، وكادت المفاجأة تزلزلها فقد نالت تلك اللوحة إعجابها منذ الوهلة الأولى وكانت تنوي شراءها بأي ثمن... سألت نفسها: «إلى هذا الحد يفهمني هذا الفنان؟!». قبل أن ترد بادرها هو بدعوة إلى العشاء وأصر عليها، ومنذ تلك الليلة كان الحب الكبير. صارحها بماضيه المزدحم بصفوف النساء وقال لها إنها حبه الأخير وسيدته التي يودع بها عالم النساء، وصارحته بأنه الحب الأول والرجل الأخير بعدما كانت قد قطعت العلاقات كافة مع سفارات الحب والرجال كل هذا العمر.

تزوجا في ليلة كانت أشبه بالأساطير، وحينما رقصت معه في حفلة الزفاف ضمها بين ذراعيه فشعرت أنها لو ماتت في تلك اللحظة فستشعر أنها عاشت أكثر مما تستحق من السعادة، غابت عن الوعي وظل قلبها ينبض فتسمع دقاته وترقص عليها كما لم ترقص امرأة.

داخل بيت الزوجية فوجئت هالة بأدهم يمنحها الحب بالقطعة... معظم وقته خارج البيت، هاتفه مشغول على الدوام، ونظرات عينيه تعترف لها أنه يخفي عنها أسراراً. لم يفلح عتابها... كانت تبكي فلا يشعر بها، ترجوه فلا يسمعها، تذكره بأيام الحب الكبيرة فيصمت، تذكره بلحظة عاشت فيها بين ذراعيه أجمل لحظات عمرها فيهز رأسه وينهض ليأوى إلى فراشه. اكتشفت أن رومانسيته مزيفة، وأن لوحاته مجرد صناعة يحترفها ليحقق بها الثراء، وأن اختياره لها كان لمجرد أنها سيدة محترمة تحافظ على بيته وماله وشرفه، وأن نزواته مع النساء وسهراته في الملاهي والبارات كانت هي حياته التي أصر عليها. عاتبته ذات يوم بنبرات صوت عالية، لم يعتدها فحزم حقائبه وخرج من البيت ولم يعد.

غياب

ثلاث سنوات وأدهم يعيش حياته كما يحلو له، وقررت هالة أن تضع حداً تختبر به مدى حب زوجها لها. أقامت دعوى طلاق أمام المحكمة وأنتظرت رد فعل أدهم. لكن أدهم لم يحضر الجلسات لمجرد أنه لا يستيقظ مبكراً، أو لأنه يضمن حب هالة وأنها لا يمكن أن تستغني عنه حتى لو حكمت المحكمة بالتطليق... لكن ليلة صدور الحكم شعر بالخطر بعد مكالمة محاميه. شعر أخيراً بالحنين إلى هالة بعدما دمره السهر وخدعته النساء وهزمته الأيام... وقبل أن يتصل بهالة يستأذنها في العودة ليصالحها، فوجئ بمكالمة من شقيقتها تطلب منه الحضور فوراً بناء على طلب هالة.

 أسرع إليها كالمجنون. لم يطمئن إلى نبرات صوت أخت زوجته... وصل إلى بيته يتصبب عرقاً، دخل شقته ففوجئ بصديقات وقريبات زوجته حول سريرها تنهمر دموعهن، دق قلبه بعنف اقترب من سرير هالة والدنيا تدور به... كلمات العتاب كانت مثل طلقات نارية في أذنيه، سيدة أخرى لا يعرفها همست بأن هالة هي الضحية وأنه هو الجاني... أقترب أكثر من سرير هالة، فتحت عينيها، همست له أن يحتويها بين ذراعيه، دمعت عيناه، فتح ذراعيه، احتواها بينهما... نظرت إليه طويلاً... تساقطت دموعه فوق وجهها، همست له مرة أخرى: «بلاش تبكِ... مش عاوزة آخر حاجة أشوفها تكون دموعك... أنا مسمحاك يا أدهم».

وفجأة، أغمضت عينيها... أسلمت الروح وهي ما زالت بين ذراعيه وفي أذنيه آخر همسة: «أنا مسمحاك يا أدهم».

2. الأمومة أولاً

 ظلت عبير حريصة على كتمان سر زوجها... حتى عن أمها وأبيها، عاشت تتمنى لو لم يأت اليوم الذي تضطر فيه إلى كشف السر الرهيب. تحملت، ربما، ما لا تتحمله أنثى أخرى في مثل ظروفها. لكن الأيام لا تسير وفقاً لهوى أحد، منذ البداية ولحظات الحب الأولى لم يكن كلاهما ينقصه شيء من إمكانات الزواج السعيد والمريح أو دوافع الحب الكبير. بهاء من أسرة ثرية وعبير أسرتها أكثر ثراء. بهاء يملك الشقة والأثاث والدخل الذي يوفر حياة كريمة وآمنة لأسرة المستقبل، وعبير رغم طابور العرسان الذي يطرق باب أسرتها لطلب يدها لم تتردد في اختيار بهاء، وانتخابه زعيماً لحياتها وقائداً لأسرتها وحاكماً بأمره على عواطفها ومشاعرها.

قال لأصدقائه إن كل النساء توفين يوم ولدت عبير... وهي كانت تردد أن بهاء جاء إلى الدنيا لتكون هي قسمته ونصيبه. الفارق الوحيد بينهما أنه أدمن الرومانسية بينما عشقت هي قانون الواقع. كان يسعده أن يحدثها عن نجوم السماء التي كان يحصيها عدداً في الليلة البارحة، وكانت عبير لا يسعدها غير الحديث عن ترتيبات الزواج وبطاقات الدعوة إلى حفلة الزفاف وأسماء أولادهما المرشحة من بنين وبنات... هو يستعذب عذاب الخصام، وهي لا تطيق الهجر والبعاد فتبادر إلى صلح سريع. يمضي بهاء ساعة في محل الورود لينتقي لها زهرة تناسب الصباح الجديد والحبيبة الملهمة ويديها الرقيقتين... وعبير تفرح برؤيته أكثر مما تسعدها الزهرة! ينظم فيها الشعر بنبض قلبه، وهي تخفي عنه ضيقها من وقته الذي ضاع في كتابة القصائد.

ظلت تحبه بجنون. احتملته وصبرت عليه وتحدت الدنيا لأجله. أبوها نصحها بأن تراجع نفسها قبل أن ترتبط بشاب عاطل يتستر وراء الحب، وعبير دافعت عنه بشراسة وبمبررات لم تكن هي مقتنعة بها في حقيقتها. كانت تتظاهر بالدهشة والاستغراب من أن يطالب الناس بهاء بالعمل وهو الوارث الذي لو أنفق كل يوم آلاف الجنيهات حتى يموت لبقيت ثروته كأنها لم تمس.

طارت عبير من الفرحة يوم لبى المأذون دعوة أسرتها وأسرة بهاء وعقد قرانها عليه، وتحدد الزفاف بعد ثلاثة أشهر. لكن بهاء ظل يماطل ويسوف ويؤجل حتى اكتمل العام من دون أن يرتب لحفلة زفافه على عبير. أخيراً تجرأت. جلست تناقشه وتعارضه وتستحثه يغير سلوكه. دمعت عيناه وهو يعلن لها عن مخاوفه من أن يقتل الزواج حبهما... أن يكون زفافهما هو المسمار الأخير في نعش الحب الكبير... أن يدفناه معاً في الليلة الموعودة حينما يخلع عنها طرحة الزفاف وفستانها الأبيض، بينما تفك هي ربطة عنقه وتخلع عنه سترة البذلة. لحظة تاريخية في حياة العرسان، لكن بهاء كان يرتعد منها ويحسب لها ألف حساب. أسعده هذا المأذون الذي عقد قرانه على عبير وجعلها في عصمته على سنة الله ورسوله، لكنه كان يراه في الوقت نفسه «حانوتياً» جاء ليغسل حبهما ويحمل جثة غرامهما إلى مثواها الأخير.

ضحكت عبير من تعبيراته، لكنه ضحك كالبكاء. غيرت الحديث وأخفت غضبها. انصرفا في حزن، وعاد بهاء إلى بيته سعيداً بلحظات العذاب والخصام الجديد. فالخصام بين الأحبة كما يراه بهاء يصقل القلوب ويطهر المشاعر ويصبح مثل محطات تقوية الإرسال! بينما أرسلت إليه عبير خطاباً موجزاً وساخناً بالتهديدات المهذبة. إلا أنها أنهته بكلمات من أغنية لعبدالحليم حافظ تقول: «أنت شايف الحب عيون وهمس... لكن أنا شايف أحلى كلام في الحب هو كلام الشفايف». ضحك بهاء بعدما قرأ الرسالة وفهم ما تحمله من تهديدات وما بين طيات كلمات الغنوة من إيحاءات. سارع إليها... صالحها للمرة الأولى... اتفقا على موعد الزفاف. وفي حفلة صاخبة في أكبر الفنادق الشهيرة سهر الأهل والأصدقاء وكبار المدعوين حتى نسمات الفجر... بينما انصرف العروسان إلى قفصهما الجديد في الثانية فجراً.

مضت سبعة أشهر... وليلة الزفاف الحقيقية لم تتم. كانت عبير تؤمن أن البيوت أسرار، وتتذكر كلمات جدتها كلما اعتراها الغضب: «الراجل ومراته زي القبر وأفعاله». وبعد عام انفجر البركان، ارتفع صوتها وهي تطالب بهاء أن يخرج بعض الوقت من محراب الرومانسية. صرخت فيه مؤكدة أنها ليست راهبة حتى تحتمله ما بقي من عمرها. ولا هي شيطانة حتى تخونه أو تفضح سره. وبهدوء أشبه بالبرود الإنكليزي راح بهاء يستحث عروسه على مزيد من الصبر حتى يندمج مع الواقع ويراها امرأة مثل كل النساء ويمكنه الاقتراب منها.

غضبت عبير... رحلت إلى بيت أسرتها من دون أن تخبرهم عن سبب الخصام... واعترف هو بالحقيقة لأبويه. ثار أبوه وأمه فاصطحباه إلى كبار أساتذة الطب، لكن التحاليل والفحوصات الطبية كافة أكدت أن بهاء حالة مستعصية، إلا إذا حدثت معجزة لا يراها الطب قريبة. أخيراً، استجابت لوسطاء الخير وتصالحت على بهاء من دون أن تنطق بسر زوجها أمام وسطاء الخير... ثلاثة أعوام وعبير تنتظر معجزة لا تحدث أبداً... طلبت الطلاق وهي حزينة، لكنه رفض مرات ومرات حتى اضطرت إلى اللجوء إلى القضاء. وبينما وقفت عبير أمام محكمة الأحوال الشخصية تطلب الطلاق للضرر، وتقدم ما يثبت أنها عذراء منذ ليلة زفافها من ثلاثة أعوام وأكثر. قال بهاء أمام المحكمة إنه ضحية الرومانسية التي جعلته يتعامل مع زوجته وكأنها ملاك، والملائكة لا يتزوجون أبداً... وردت عبير بأنها لم تحب في حياتها سوى بهاء، لكنه الحب الذي لا ينجب أطفالاً، وأنها قادرة على أن تحتمل عذاب الفراق، لكنها لن تحتمل الحرمان من الأمومة. قضت المحكمة بالتطليق تطبيقاً للشرع وكي لا تتعرض الزوجة للفتنة، وكفى ما تحملته ثلاث سنوات لم ينكرها زوجها وعاشتها زوجته كراهبة.

بهاء بطل الواقعة، صديقي القديم في الجامعة، فوجئت به بعد صدور الحكم بزيارته لي، والتي وصفها بأنها زيارة وداع لأنه أنهى إجراءات الهجرة وربما لا يعود إلى مصر... سألته هل ودع عبير؟ صمت... وقررت تغيير الموضوع بسرعة فلم أكن قادراً على رؤية الدموع في عيني بهاء.