{سراييفو، نسخة القرن الواحد والعشرين}! هكذا تصف العالمة السياسية آن ماري سلوتر، مديرة التخطيط السياسي في عهد وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، ما يحدث راهناً على الساحل الصيني حيث تتداخل المطالب بِضم الأراضي من دول متعددة.يبدو التشابه بين الوضع الراهن والفترة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى صادماً. تُعتبر الصين {نسخة عن ألمانيا الغابرة} كما يقول المؤرخ الأميركي روبرت كاغان، وهي القوة العالمية الناشئة التي لا تزال تسعى إلى تحديد دورها داخل المجتمع الدولي. في الوقت نفسه، تتمسك الصين بمطالبها بالموارد الطبيعية، فتعمد إلى إخافة الدول المجاورة لها وتطوير قوة بحرية هائلة لضمان أمن طرقاتها التجارية. من خلال اتخاذ هذه الخطوات، قد تتحول الصين بسهولة إلى خصم لقوة عالمية أخرى، أي الولايات المتحدة الأميركية التي يمكن أن تؤدي الدور الذي أدته سابقاً بريطانيا العظمى وفق هذه المقارنة التاريخية. مثلما فعلت المملكة المتحدة في تلك الحقبة، تبني الولايات المتحدة راهناً التحالفات مع الدول المجاورة لخصمها. وقد ردّ القادة في بكين على محاولات محاصرة بلدهم بسخط عارم يشبه موقف الرايخ الألماني في الماضي.مجدداً، تكشف الأزمة الراهنة في بحر الصين الشرقي عن وجود دروس إضافية يمكن تعلّمها من الحرب العالمية الأولى بعد مرور قرن على اندلاعها. وعند التدقيق بالوضع، يتبين أن السياسيين من الفريقين يحاولون تجنب ارتكاب الأخطاء نفسها. لكن تشتق الأزمة الراهنة في شرق آسيا من الوضع الذي مهّد لاندلاع الحرب العالمية الأولى: ما من بلد يستطيع اليوم أداء الدور الذي قامت به سابقاً الولايات المتحدة التي دخلت الحرب في مرحلة متأخرة وحسمت نتيجتها وتفوقت في النهاية على الفائزين والخاسرين معاً.تزامن دخول الولايات المتحدة إلى الحرب في عام 1917 مع بداية مسارها للتحول إلى قوة عالمية. هذا هو الهدف الذي سعى إليه بعض السياسيين في واشنطن وفق المؤرخ هيرفريد مونكلر. كان وزير الخزانة ويليام غيبز ماكادو، صهر الرئيس وودرو ويلسون، قد بدأ بإعداد الخطط لاستبدال الجنيه الاسترليني بالدولار كي يصبح أهم عملة احتياطية دولية.عصب العالملكنّ والد زوجته، المحامي والعالِم السياسي ويلسون (الرئيس الأميركي الوحيد الذي دخل معترك السياسة بعد أن كان رئيس جامعة)، لم يكن يشاركه تلك النوايا العادية. كان ويلسون مثالياً متشدداً وهو يتحدر من المشيخية الاسكتلندية لكن يتسم بالواقعية في مواضيع كثيرة، وقد أراد أن ينقذ العالم وينهي الحرب.لكنه فشل في مساعيه طبعاً لأن السلام دام طوال 20 عاماً فقط بعد الحرب العالمية الأولى. مع ذلك، يبرر السياسيون الأميركيون اليوم التدخل العسكري عبر استعمال الحجج نفسها التي استعملها ويلسون لإقناع البلد بإنهاء عزلته والتدخل في أوروبا.لكن نجح ويلسون في توجيه انتباه الولايات المتحدة نحو أوروبا مجدداً. خلال القرن اللاحق، بقيت القارة القديمة محور السياسة الأميركية ولو بدرجة متفاوتة. يبدو أن مكانة أوروبا بدأت تتراجع مجدداً اليوم فيما تحوّل واشنطن أنظارها نحو آسيا الحيوية، ويحصل ذلك في عهد رئيسٍ فاز، مثل ويلسون، بجائزة نوبل للسلام ويميل إلى النزعة المثالية والخطابات العاطفية.لكن في تلك الفترة، كانت أوروبا تُعتبر عصب العالم. في نهاية عام 1916، كانت الحرب قد قتلت ملايين الجنود وبدت الأطراف المتناحرة عاجزة عن إنهاء الحرب. لم يجد ويسلون خياراً آخر عدا دخول الصراع. في 22 يناير 1917، شرح أفكاره عن السلام أمام مجلس الشيوخ الأميركي. فقال إن الولايات المتحدة من واجبها المساهمة في رسم بنية للسلام الدائم.اعتبر ويلسون أن هدف الحرب يجب أن يتعلق بإنشاء {قوة جماعية} بدل {ميزان القوى} وتحقيق {السلام المشترك والمنظَّم} بدل {الخصومات المنظمة}. بعبارة أخرى، وحده {السلام المجرّد من الانتصار} كان يمكن أن يضع حداً للحرب في أوروبا.عبّر ويلسون في خطابه عن موقفه من الصراع الجوهري الذي طبع السياسة الخارجية الأميركية في تلك الفترة. من جهة برز فريق {الواقعيين} الذين ظنوا أن أبرز مهمة يجب أن تتولاها الولايات المتحدة تقضي بمراعاة مصالح مختلف البلدان لتحقيق أفضل توازن ممكن وأكثره ثباتاً.نور في الظلمةتألف الفريق الثاني من المثاليين. سُمّيت تلك المقاربة لاحقاً تيمناً بويلسون. ترتكز {سياسة ويلسون الخارجية} على المفهوم الذي ظهر في أيام التشدد الأخلاقي للآباء المؤسسين، وهي تفترض أن الولايات المتحدة يجب أن تكون قدوة لجميع الدول الأخرى. يجب أن يسعى البلد إلى تحقيق مهمة واضحة: بث النور وسط ظلمة العبودية والتبعية.نجح ويلسون في كسب دعم الأغلبية في الكونغرس بفضل خطابه الناري. وصف السيناتور بن تيلمان الخطاب بـ}أكثر كلام صادم ونبيل تفوه به إنسان منذ إعلان الاستقلال}. ووصفته صحيفة {نيويورك تايمز} بـ{التحول الأخلاقي} في السياسة الأميركية.لم يكن الألمان يعارضون عقد محادثات سلام حتى تلك الفترة، لكنهم ردوا بعد تسعة أيام عبر استئناف حرب الغواصات اللامحدودة. عندما نقل السكرتير الخاص جوزيف تومولتي الخبر لويلسون، أصبح وجهه شاحباً وقال: {إنه إعلان للحرب!}.كسب قلوب الناساعتبرت الأركان العامة الألمانية أن القوة العسكرية الأميركية تتراوح {بين قوة بلجيكا والبرتغال}. لم يكن ذلك التقييم خاطئاً لكنه فشل في تحديد السرعة التي ستتحرك بها القوة الصناعية الناشئة لإطلاق القوات الإضافية. حشد ويلسون في البداية القوات البحرية لمجابهة تهديد الغواصات الألمانية. وقد تمكن أيضاً من مصادرة 97 سفينة ألمانية ونمساوية في الموانئ الأميركية واستُعملت تلك السفن في المرحلة اللاحقة لنقل 40 ألف جندي إلى أوروبا. ثم تبعهم حوالى مليونَي جندي من المشاة في خريف عام 1918.حارب ويلسون بدوره لكسب قلوب وعقول مواطنيه الأميركيين. لنقل {النزعة الأميركية} إلى أقاصي الأرض، أنشأ الرئيس ما يشبه وكالة دعائية ناشطة عالمياً، وهي {اللجنة الإعلامية} برئاسة الصحافي جورج كريل. بعد عقدين، انبهر رئيس الحملة الدعائية النازي جوزيف غوبلز بكتاب كريل الذي حمل عنوان {كيف سوّقنا أميركا} (How We Advertised America).لطالما دعم ويلسون القضايا الليبرالية في السياسة المحلية لكنه اتخذ مقاربة قاسية تجاه المعارضين. أُدين حوالى 1500 أميركي بتهمة تكوين آراء مغايرة عن سياسة الحرب التي تتبعها الحكومة، بما في ذلك يوجين دبس الذي كان مرشح الحزب الاشتراكي للرئاسة. كان ويلسون ابن وزير وكان يجيد تبادل مشاعر الكره. في مرحلة لاحقة قال ديفيد لويد جورج، رئيس الوزراء البريطاني في زمن الحرب: {كان ويسلون يحب الجنس البشري لكنه لم يكن يحب الناس}.زيارة ناجحةبعد أن كان ويلسون ملتزماً بالسلام، أصبح الآن رسول حرب. خلال تجمّع في بالتيمور، دعا القوات إلى التحرك بشكل حاسم وإلى استعمال القوة، بل «أقصى درجات القوة، من دون حدود أو رادع، وهي القوة المحقّة والظافرة التي ستصحح قانون العالم وتسحق كل ذرة أنانية». ثم تلقى جائزة نوبل للسلام بعد سنتين فقط.ناشد البريطانيون والفرنسيون الأميركيين كي يعوضوا عن الخسائر في صفوفهم عبر استدعاء القوات الجديدة من الخارج، لكن أصر رئيس قوات التدخل الأميركية، الجنرال جون بيرشينغ، على إبقاء جيشه مستقلاً. فردع جنوده حتى بداية صيف عام 1918. بعد أن استُنزفت فاعلية العمليات الهجومية الألمانية الأخيرة، تدخل الأميركيون على نطاق واسع، فساهموا بشكل حاسم في دحر الألمان.خلال أيام التدخل الأميركي في الحرب (عددها 584 يوماً)، قُتل 116516 جندياً وبحاراً أميركياً ومات نصفهم تقريباً بسبب وباء الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918، بينما جُرح 204002 جندياً وبقي 3350 في عداد المفقودين.عندما عرضت الحكومة الألمانية الجديدة، في عهد المستشار ماكسيميليان فون بادن، على الرئيس الأميركي وقف إطلاق النار في بداية أكتوبر، شعر ويلسون بأنه انتصر وبأن مهمته تقضي بإعادة تنظيم الدول الأوروبية. فقال: {أنقذنا العالم ولا أنوي أن أدع هؤلاء الأوروبيين ينسون ما حدث}.كانت تلك الكلمات كبيرة ولكن كان من حق ويلسون أن يثق بنفسه لهذه الدرجة. خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الأولى كقوة صناعية رائدة في بداية القرن العشرين. لم يكتسب أي بلد آخر خبرة مماثلة في مجال إنتاج السلع بكميات هائلة. بعد قرار التجنيد العام، طور البلد جيشاً قوياً واجه خسائر أقل بكثير من البريطانيين والفرنسيين والألمان.حرب تنهي الحروبكانت القوى الأوروبية الظافرة تدين بحوالى 10 مليارات دولار للولايات المتحدة. ما كانت القارة القديمة المرهقة لتصمد من دون شحنات الغذاء القادمة من الولايات المتحدة. كتب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر تحليلاً صائباً يستبق ما سيحدث ومفاده أن الهيمنة الأميركية العالمية أصبحت الآن {حتمية}.في 4 ديسمبر 1918، أبحر ويلسون في رحلة ناجحة إلى أوروبا على متن سفينة {جورج واشنطن}، وقد كانت أول رحلة أوروبية كبرى يقوم بها أي رئيس أميركي.كان ويلسون يرتدي معطفاً من جلد الدب حين وقف بالقرب من القبطان على الجسر وراقب كيف راح الناس يهتفون باسمه على السفن التي تعبر أمامه. كان في طريقه إلى باريس حيث خطط هو والقوى المنتصرة الأخرى لإعداد مسودة وثيقة كانت لتضمن أمراً واحداً فوق كل شيء: الحرب التي انتهت بوقف إطلاق النار في 11 نوفمبر كانت ستصبح {الحرب التي تنهي جميع الحروب}. هكذا يصف المؤرخ الألماني كلاوس شواب حلم ويلسون: {كان ويلسون أول رئيس أميركي يضع الولايات المتحدة في خدمة النظام العالمي الذي حلّ مكان الخصومات التقليدية التي تركز على كسب النفوذ، وذلك عبر شكل من السياسة المحلية العالمية المبنية على القانون الدولي}.بما أن ويسلون كان يَعِد بالحرية وتقرير المصير والسلام الأبدي، لم يكن مفاجئاً أن يرحب به الناس ويحتفلوا بمجيئه باعتباره منقذاً في أوروبا. كتب هربرت هوفر الذي أصبح لاحقاً رئيس الولايات المتحدة وأدار الصادرات الغذائية إلى أوروبا في عهد ويلسون: {بلغ وودرو ويلسون أعلى مستويات القيادة الفكرية والروحية في العالم كله، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ}.كانت محطته الأولى في باريس. لم تستطع إديث ويلسون التي كانت إلى جانب زوجها كالعادة أن تصدق ما شاهدته، فذكرت: {عمّت الأفراح في باريس كلها. علا الهتاف في جميع الساحات وضجّ المكان بشعارات الإنسانية. كانت الأرصفة والمباني مكتظة، حتى إنّ الرجال والفتيان تسلقوا أشجار الكستناء...}.السلاممحطة ويلسون الثانية كانت لندن. تم تحذير الثنائي من أن البريطانيين سيتصرفون بتحفظ أكبر خلال أول زيارة رسمية لرئيس أميركي. لم يكن رئيس الوزراء لويد جورج يثق بويلسون، وكان محقاً حين افترض أن هذه القوة الجديدة تطرح تهديداً على مستقبل الإمبراطورية البريطانية أكثر مما فعلت الإمبراطورية الألمانية يوماً. مع ذلك، حظي ويلسون بترحيب حار في لندن كما في شوارع باريس. بعد فترة قصيرة من وصولهما إلى قصر باكنغهام، وجّه الملك جورج الخامس والملكة ماري رسالة إلى الثنائي الرئاسي مفادها أن الحشد خارج القصر بات ضخماً لذا من الضروري أن يظهرا معاً على الشرفة.كانت روما هي المحطة الثالثة. استُقبلت عائلة ويلسون بالورود البيضاء. كتب حارس ويلسون الشخصي، وهو العميل في الجهاز السري إدموند ستارلينغ: {الاستقبال في روما تجاوز كل ما شاهدته في حياتي أثناء التظاهرات العامة. قام الناس حرفياً بتبجيل الرئيس وكأنه إله السلام}.كانت ألمانيا بدورها تعوّل على ويلسون في تلك الفترة. كان يُفترض أن يتم التفاوض على شروط وقف إطلاق النار على أساس النقاط الأربع عشرة التي طرحها ويلسون، حيث تمنى تطبيق المبادئ الليبرالية ضمن إطار عالمي. كان جميع الناس ليكتسبوا بذلك حق تقرير المصير. شملت الخطة فرض ضوابط على استعمال الأسلحة في جميع أنحاء أوروبا. لكن بالنسبة إلى ويلسون، كانت أهم نقطة تتعلق بنشوء عصبة الأمم، وهي مجموعة تتمتع بكامل الصلاحيات وتهدف إلى ضمان السلام.سخر عدد كبير من السياسيين طبعاً من مثالية ويلسون. فقال رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو ساخراً: {الله رضي بعشر وصايا. لكن فرض علينا ويلسون 14 وصية}. سخر الرئيس السابق تيدي روزفلت بدوره من فكرة عصبة الأمم.لكن لم يتكلم الجميع بهذا القدر من السخرية. كتب الشاب جون ماينارد كينز، عضو في وفد التفاوض البريطاني: {بالإضافة إلى هذا التأثير الأخلاقي، كانت مقاليد السلطة بيد ويلسون}. هكذا وصف الخبير الاقتصادي نظام العالم الجديد: {كانت الجيوش الأميركية في ذروة أدائها من حيث العدد والانضباط والمعدات. وكانت أوروبا تتكل بالكامل على إمدادات الغذاء من الولايات المتحدة. ومن الناحية المالية، كانت تحت رحمتها أيضاً. كانت أوروبا... تدين أصلاً للولايات المتحدة بأكثر مما تستطيع دفعه}.فشل ويلسوندافع ويلسون بشراسة عن نشوء عصبة الأمم، فذكر بكل انزعاج أن البريطانيين والفرنسيين كانوا أكثر تصميماً على المطالبة بالشروط التي يريدونها من ألمانيا. كان ويلسون مستعداً أيضاً لتأجيل المفاوضات حول الحدود والإصلاحات الجديدة لمدة سنة (لكن من دون تأجيل المحادثات حول عصبة الأمم) إلى أن تهدأ الانفعالات. حذر ويلسون: {أكبر خطأ يمكن أن نرتكبه هو منح ألمانيا أسباباً قوية كي ترغب يوماً في الانتقام}. لكنه لم يتمكن من فرض سيطرته وشعر الألمان بعد فترة قصيرة بأن ويلسون خانهم.وافق البريطانيون والفرنسيون على إنشاء عصبة الأمم، بما في ذلك إقرار المادة العاشرة التي تشمل تقديم المساعدات العسكرية الجماعية لأي دولة تتعرض للهجوم من الدول الأعضاء. أدرك المنتصرون الأوروبيون أنها الطريقة الوحيدة لضمان الدعم الأميركي المستقبلي. لكن قدم ويلسون بدوره التنازلات في المحادثات اللاحقة. غداة إصابته بمرض لم يتم تشخيصه مطلقاً (تتراوح الافتراضات بين الإنفلونزا والتهاب الدماغ وسلسلة من الجلطات الدماغية الصغيرة)، تغير سلوك الرئيس. كانت تصرفات ويلسون متوقعة في السابق لكنه بدأ في هذه المرحلة يصدر أوامر محيّرة ويتذمر لأن ألوان المفروشات في الفيلا التي يملكها في باريس لا تناسب ذوقه. لذا طلب من فريق العمل إعادة ترتيب الأثاث إلى أن أصبحت جميع المفروشات الملونة بلون واحد على جهة واحدة من الغرفة بينما وُضعت تلك المكوّنة من ألوان مختلفة في أماكن أخرى.في نهاية المطاف، اعتبر هوفر أن الحلفاء ظنوا أن ويلسون سيوافق على تقديم التنازلات بشأن 13 نقطة من الخطة لأجل إنقاذ النقطة الرابعة عشرة، أي إنشاء عصبة الأمم.وهذا ما حصل فعلاً. وقّع ويلسون على معاهدة فرساي رغم تحفظاته الخاصة والتحذيرات الخارجية التي تعتبر أن المعاهدة تحتوي على الفتيل الذي يمكن أن يشعل الحرب المقبلة.لكنّ الهزيمة الحقيقية التي سيواجهها ويلسون لم تكن قد وقعت بعد. عندما عاد إلى واشنطن في يوليو 1919، غداة رحلته الثالثة إلى أوروبا، واجه الكونغرس حيث كان الجمهوريون يملكون الغالبية في مجلس الشيوخ ومجلس النواب معاً. كان هؤلاء الجمهوريون عدائيين مع ويلسون بقدر عدائية خلفائهم تجاه الرئيس الديمقراطي الراهن باراك أوباما. تبدو الأسباب التي دفعت الجمهوريين إلى معارضة ويلسون وأوباما متشابهة بدرجة معينة.ازدراء مريربما أن الولايات المتحدة كانت لتتنازل عن جزء من سيادتها بعد انتسابها إلى عصبة الأمم، رفض مجلس الشيوخ معاهدة فرساي كلها وفكرة نشوء عصبة الأمم. لم توّقع الولايات المتحدة على معاهدة سلام منفصلة مع ألمانيا قبل عام 1921. شاهد ويلسون مسيرة حياته تتدمر أمام عينيه. لكنه لم يشعر بأي عدائية تجاه الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ، بل إنه قال بعد مغادرة منصبه إنه يشعر تجاههم بـ}ازدراء مرير}.ليس غريباً أن ترفض الولايات المتحدة الهيئات الدولية التي لا تسيطر عليها واشنطن صراحةً. يعبّر الأميركيون المحافظون دوماً عن بغضهم للأمم المتحدة التي خلفت عصبة الأمم. وبالنسبة إلى اليمين المسيحي المتطرف الذي يبقى نافذاً اليوم، تُعتبر الأمم المتحدة أداة للشيطان ويمكن استعمالها للهيمنة على العالم.حتى التحالفات البارزة مثل حلف الأطلسي تُعتبر مشبوهة. يفضّل المحافظون من أمثال وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد ونائب الرئيس السابق ديك تشيني أن يختاروا حلفاءهم بأنفسهم.تكمن المفارقة في واقع أن أهم مناصري ذلك الثنائي في تلك الفترة كانوا من المحافظين الجدد الذين اعتبروا أنفسهم ورثة ويلسون الفكريين. اعتبر نائب وزير الدفاع بول وولفويتز أن الحرب ضد العراق هي أداة مشروعة لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وتشبه هذه الرؤية هدف ويلسون بتصدير الديمقراطية إلى ألمانيا وإمبراطورية هابسبورغ.لكن ماذا عن المثاليين؟ هل حقق مشروع نشر القيم الذي تتبعه السياسة الخارجية الأميركية أي نجاح بعد 100 سنة على فشل الأب المؤسس وودرو ويلسون؟قيم لم تفقد صلاحيتها السياسيةلا تزال الولايات المتحدة، بفضل ويلسون، القوة العالمية الرائدة حتى لو أصبحت الآن مديونة للخارج بقدر ما كانت بريطانيا العظمى تدين للولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.في السنوات التي تلت عهد ويلسون، حاول الجمهوريون عزل البلد وحمايته عبر فرض التعريفات الحمائية، وهي سياسة فاشلة انتهت بوقوع الكساد الكبير. تابع الرئيس الديمقراطي التالي، فرانكلين روزفلت، تطبيق عدد كبير من المُثل المستوحاة من حقبة ويلسون. وخلال الحرب العالمية الثانية، أنشأ ركيزة المنظمة التي ستخلف عصبة الأمم وهي تستطيع، في بعض الأحيان على الأقل، تحقيق النجاح بدرجة معينة.من جهة أخرى، كان الرئيس السابق ريتشارد نيكسون ووزير الخارجية هنري كسنجر يتبعان النهج الواقعي في السياسة الخارجية، فحاولا إخماد التوتر خلال الحرب الباردة عبر تحقيق انفراج معين مع الاتحاد السوفياتي.لكن عندما سقطت الأنظمة الدكتاتورية الاشتراكية في شرق أوروبا، اعتبر عدد كبير من الأميركيين أن ما حدث يثبت أن قيم ويلسون عن الحرية وتقرير المصير لم تفقد صلاحيتها السياسية حتى اليوم. ربما يمكن أن يتمنى وولفويتز، ابن حفيد ويلسون، أن تَثبت صوابية رأيه في المستقبل البعيد.
توابل - EXTRA
الحرب العالمية الأولى وتحوّل الولايات المتحدة إلى قوة عظمى
31-01-2014