الخلطة الستينية لأدباء العراق كانت ماركسية / وجودية بصورة تصلح للوحة تعبيرية ألمانية، لا بفعل المعترك السياسي/ الفلسفي وحده، بل بفعل معترك الشعر / الرسم، الذي كان يستحوذ على هوى التعبيريين. معظمنا كان شاعراً / رساماً. مؤيد الراوي كان في المحور. وكأن النحافة، والطول، وتقطيبة الوجه الرافض، وانتصاب الشعر الكث، وحركة الكف التي تسبق الكلام شبه المرتّل تليق بالمحور، لا بالمدار. مُعززةً بمواهب تتدفق من كيانه عفو الخاطر: كتابة، شعر، رسم، تصميم، صحافة، فكر سياسي، إصغاء ملحاح للنذير.

Ad

وضع لي لوحة غلاف مجموعتي الشعرية الأولى «حيث تبدأ الأشياء» (1968)، بعد أن صممها، وخط عنوانها الشاعر / الرسام، الراحل إبراهيم زاير. ولم يكن مؤيد يتحمس للانتساب إلى أي من مواهبه تلك. حين خرجنا إلى بيروت عام 1969 فضل الانغمار في صحافة المقاومة الفلسطينية، غير معني ومتأثر بالتعتيم الإعلامي الذي خططت له سلطة البعث ضد الشعراء العراقيين منذ تلك المرحلة، في العراق وعلى امتداد العالم العربي كله. وكأن هذا التعتيم ييسّر لديه رغبةً في تعتيم ذاتي، يجده كفيلاً، ربما، بإنضاج صوت المبدع فيه.

وكان على حق، لأن كتابه «ممالك» (دار الجمل2010)، ويضم قرابة 80 من «قصائد النثر»، معظمها طويلة، يعطيك محصّلةَ صمت الانضاج الطويل هذا. القصائد في معظمها مراثٍ، للذات، للآخر، للوطن وللحياة. وهي مراث تنتسب إلى صوت الحكمة، لا صوت العاطفة. بالرغم من أن العاطفة، حين تُقبل، تقبل طليقةً، كريمة:

«صوب البحر ذاهبون والمياه واسعة تثير المخيلة.

العمرُ في البلاد موقوفٌ على ما سيأتي: وشمٌ أو ندبةٌ تذكرهم بالماضي.

ينزلون إلى البحر بسلالٍ فارغة من اليقين، الموانئ بعيدةٌ مُبهمةٌ، وللأنواء مزاجٌ كحجرِ القيامة.

ذاهبون إلى البحر دفّانٌ بكفن من زبَد.

من قصيدة «سفن المحبَطين»، وهي ثاني مرثية طويلة لمهاجرين مُهرَّبين من العراق والسنيغال غرقوا في طريقهم إلى الغرب. هناك مرثية لكاتب القصة جليل القيسي، وأخرى للشاعر جان دمّو، وثالثة للشاعر سركون بولص، وعشرات للمدن المنتهكة، للموتى والأحياء في منافيهم. مرثية النفس لا تخلو من ظلال الآخر. فالشاعر حين يتجول إنما «في جثمانه المتكاثر، حاملاً أشباحه»، لأنه لا ينفرد مع عذابه في عزلة، فهو أكثر من واحد وشبحه أشباح. الشاعر ليس رومانتيكياً لينفرد وحده، بل هو وليد الأذى الذي أحاط بكثيرين. تردُدُ صدى من ترددات يمثلها الأحياء والموتى: أم حسين، فاطمة، الطفل حسين، أحمد ج.

«قصيدة النثر» هنا تأخذ راحتها على يدي مؤيد الراوي، وتولد مبرأةً من أي انتساب للظاهرة التي تشغل المحيط الأدبي العربي. الظاهرة في هذا المحيط أماتت «شخصية» الصوت، وكأن نصوصها تطبيقات لموقف نظري موحّد. «قصيدة النثر» هنا بالغة «الشخصية» حدَّ الندرة. وهي طبيعة في النص الأصيل. في كلمة الغلاف الأخير يكتب الراحل سركون بولص أن مؤيد منذ عرفه «مصرٌّ على قتل الغنائية، والابتعاد عن التفعيلة.» وأنا أجد العكس، وهو مصدر حماستي. فأجمل ما في نص مؤيد غنائيته. ولكن هذه الغنائية لا تصدر عن عاطفة مائعة، بل عن حكمة خفيضة الصوت، متروية. ولذلك غابت عن نباهة سركون:

تلك الرقيمات من طين الأنهار تركتَها لُغزاً لا تُحلّ رموزه.

ليس من العدل أنْ توصَف: قديس مشاكس كتابه مُبهمٌ ووصاياه قبض الريح.

ليس من الحكمة أن تُختصر: صوتٌ أضاع رنينه في متاهة الضباع.

كان فتىً مُلتبساً مرَّ كخيالٍ على العصر، ولمْ يقرع الأبواب.» (قصيدة «جان دمّو»)

أما الاصرار على الابتعاد عن التفعيلة فلا أحسبه من هموم «قصيدة النثر» هذه. فهي بدأت من حقل جديد غير حقل الشعر الذي يلتزم قاعدة في الوزن، وغير حقل النثر الذي يلتزم السياق المنطقي. خرجت جديدةً من رحمِ خيالٍ وعاطفةٍ دفينين في اللغة، مُطلقةَ السراح من الإيقاع والمنطق، وقادرةً على الغناء دونهما.