فندق {آي بورتيشي} هو قصر من حقبة الفن الحديث ويقع في مركز بولونيا التاريخي، وهو يَعِد الضيوف بـ{تجربة جديدة ومليئة بالاكتشافات والسحر تضمن أن تحرك الحواس الخمس!}. لكن خاض راؤول ويل، الذي كان سابقاً أحد أبرز المديرين التنفيذيين في بنك {يو بي أس} السويسري، تجربة غير سارة بأي شكل في الفترة الأخيرة.في الساعة الثانية إلا ربع من فجر 19 أكتوبر، اعتقلت الشرطة الإيطالية ذلك الرجل الذي يبلغ 53 عاماً أثناء وجوده في الفندق ونقلته إلى سجن «دوتسا» الأقل فخامة بكثير. ما سبب ذلك؟ اتهمت السلطات الأميركية ويل، الرئيس السابق لإدارة الثروات في بنك «يو بي أس»، بمساعدة العملاء الأميركيين على تخبئة أصولهم من السلطات الضريبية الأميركية عبر حسابات مصرفية سويسرية. كان اعتقال ويل واحداً من سلسلة مؤشرات برزت أخيراً على أن المصرفيين حول العالم ما عادوا يمثّلون النخبة المرموقة في مجال الأعمال. يبدو فجأةً أن النيابة العامة والمنظمين الماليين والسياسيين في كل مكان باتوا يسعون الآن إلى إدانة جميع التجاوزات الحاصلة في هذا القطاع وبوتيرة متسارعة.أصدرت السلطات البريطانية حديثاً عقوبات قياسية بحق القطاع المالي. في الأسبوع الماضي، على الجانب الآخر من الأطلسي، أدانت محكمة أميركية {بنك أوف أميركا} ومدير سابق له بتهمة الاحتيال على خلفية مخطط يشمل قروض عقارية مشبوهة. قبل ذلك بفترة قصيرة، قام جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك {جي بي مورغان}، بالتفاوض على مضض حول تسوية قياسية بقيمة 13 مليار دولار، أقله لوقف الادعاءات المدنية التي تعتبر أن مصرفه باع عن قصد أوراق مالية شائبة مدعومة بالرهن العقاري. يدرك ديمون ضرورة تحقيق العدالة، لذا تذمر الرئيس المصرفي المشاكس حديثاً وقال: {لكن يجب ألا يسعى الجميع إلى اختيار بعض المصرفيين عشوائياً لمعاقبتهم}.مجرد صفعةفي الحقيقة، تُعتبر الانقلابات المدهشة التي حصلت، مثل اعتقال ويل، أكثر من مجرد تحركات رمزية. تشبه الرسوم وقيمة التسويات التي يدفعها بعض المؤسسات المالية صكوك الغفران التي كانت تبيعها الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى. بالتالي، يمكن غفران خطايا الماضي الآن، لكن ما من ضمانات على تحسن الوضع مستقبلاً.لم تفرض الهيئات التنظيمية والجهات السياسية أي ضوابط فاعلة على البنوك والمصرفيين. ربما تلطخت سمعتهم، لكن يبقى نفوذهم قوياً.في فرانكفورت، مركز ألمانيا المالي، يحاول {دويتشه بنك} التحرر تدريجاً من الأعباء القانونية التي خلّفها الماضي، وقد أعلن المدير التنفيذي، أنشو جاين، يوم الثلاثاء 29 أكتوبر، أنه اقتطع 1.2 مليار يورو (1.6 مليار دولار) لتغطية الخسائر العالقة نتيجة الدعاوى القضائية، ما أدى إلى تراجع أرباح البنك قبل خصم الضرائب إلى 18 مليون يورو خلال الفصل الثالث، بعدما كانت التوقعات تشير إلى تحقيق 642 مليون يورو. هذا ما يجعل احتياطي البنك المخصص للدعاوى القضائية يصل إلى ما مجموعه 4.1 مليارات يورو.تتراوح مشاكل {دويتشه بنك} القانونية بين معارك قضائية مع ورثة القطب الإعلامي ليو كيرش الألماني وتهم بالاحتيال ترتبط بالرهون الأميركية في المرحلة التمهيدية لنشوء الأزمة المالية. اقتطع فريق جاين حوالى 500 مليون يورو لمواجهة أي عقوبات محتملة تكون مرتبطة بالفضيحة المحيطة بالتلاعب المزعوم بسعر فائدة الليبور، ما يؤثر على الصفقات المالية عالمياً. قد تكون الفاتورة النهائية أعلى من ذلك: لوقف أي تحقيقات إضافية حول مؤشر الليبور، سبق وتوصل المصرفان البريطانيان {باركليز} و}آر بي إس} ومصرفا {يو بي إس} السويسري و}رابوبنك} الهولندي إلى تسويات مع الوكالات الحكومية وقد بلغت قيمتها 3.5 مليارات دولار.تحقيقات ألمانيةيسجل المحققون الألمان تقدماً بطيئاً على نحو استثنائي فيما يحصد زملاؤهم في الخارج أرقاماً مبهرة على مستوى مؤشر الليبور. حتى هذا اليوم، لم تقدم {الهيئة العامة للرقابة المالية الفدرالية» في ألمانيا تقريراً نهائياً عن التدقيق المالي الذي أجرته، بل اكتفت بإرسال تقرير موقت إلى «دويتشه بنك». اليوم، وبسبب إصرار «الهيئة العامة للرقابة المالية الفدرالية»، يقوم البنك مجدداً باستجواب داخلي لخمسين موظفاً تقريباً.لكن لا تتخذ {الهيئة العامة للرقابة المالية الفدرالية» الخطوات التي يمكن توقّعها منها: لم يتم الاتصال بعد بأربعة تجار نجحوا في رفع دعوى ضد «دويتشه بنك» عبر محكمة العمل في فرانكفورت لمنع إنهاء عملهم، مع أن شهادات المحكمة ورّطت آلان كلوتي، مدير تنفيذي بارز وشريك مقرب من جاين. كان كلوتي مسؤولاً عن تداول أسعار الفائدة في البنك وصفقات النقد الأجنبي في تلك الفترة. اقتبس التجار كلام كلوتي حين قال إنه أراد حل مسألة مؤشر الليبور سريعاً لأن جاين سيصبح رئيس البنك قريباً. لكن ينكر البنك هذه الادعاءات.تشتبه الهيئات التنظيمية الآن بأن المصرفيين تلاعبوا بسوق النقد الأجنبي. تحدثت وزيرة المالية السويسرية إيفلين فيدمر شلومبف حديثاً عن حصول {تلاعب فعلي بالعملات}. لكنها عادت وتراجعت عن ذلك التصريح. لا تزال التحقيقات مستمرة.صحيح أن التركيز الأول كان على بنك {يو بي أس} السويسري، لكن يواجه {دويتشه بنك} الآن عدداً من الأسئلة المحرجة من محققي {الهيئة العامة للرقابة المالية الفدرالية». يقول مصرفي استثماري يعمل مع مؤسسة مالية مقرها فرانكفورت: «لا يمكن أن أتخيل أننا، أكبر تجار للنقد الأجنبي في العالم، لم نعلم على الأقل بعمليات التلاعب إذا حصلت فعلاً».بنوك ليست خائفةلكن ليست صدفة ألا تكفي هذه الأنواع من العقوبات لهز أسس العالم المالي: يمكن أن تتحمل البنوك كلفتها بكل سهولة. حقق {دويتشه بنك} مثلاً ربحاً صافياً سنوياً بقيمة 13.6 مليار يورو منذ عام 2009. يقول هارالد هاو، أستاذ اقتصاد وشؤون مالية في جامعة جنيف: {لا يمكن ملاحقة أكبر المؤسسات المالية لدرجة إلغاء رخصها المصرفية لأن البنوك المعنية أهم من أن يتم التشكيك بها من الناحية الاقتصادية}.حققت البنوك الأميركية الكبرى الستة أرباحاً هائلة منذ اندلاع الأزمة المالية. صحيح أنها اضطرت إلى دفع 103 مليارات دولار لتغطية كلفة الدعاوى القضائية، لكن كسب بنك {جي بي مورغان} وغيره 234 مليار دولار منذ بدء الأزمة. حصد بنك {جي بي مورغان} وحده أكثر من 80 مليار دولار منذ أن أفلس البنك المنافِس له، {ليمان براذرز}، في خريف عام 2008.لا عجب في أن يتنقل رئيس بنك {جي بي مورغان}، ديمون، بكل فخر حين حضر حديثاً إلى المؤتمر السنوي لمعهد التمويل الدولي (الرابطة العالمية للمؤسسات المالية) في العاصمة الأميركية واشنطن. جلس ذلك المصرفي الأشيب بكل استرخاء خلال نقاش اللجنة وظهرت على وجهه الابتسامة المتعجرِفة التي يُعرف بها.هل تؤذي الفضائح مصرفه؟ أجاب ديمون ساخراً: {عملاؤنا مسرورون جداً من خدمتنا}. ألا يُعتبر العالم المالي معقداً جداً؟ رد ديمون بشكل لاذع: {الطائرات معقدة والحواسيب معقدة. وحتى لو تحطمت طائرة من فترة وأخرى، تبقى إنجازاتها هائلة. لا يمكنني أن أمنع الناس من كره البنوك}. بدا وكأنه لا يبالي بذلك.فضائح {جي بي مورغان}هذا هو موقف ديمون مع أنه واجه سيلاً من التحقيقات والاستجوابات والدعاوى القضائية لدرجة أنها تحتاج إلى التصنيف على خارطة العالم لتجنب أي ارتباك. في المملكة المتحدة، راهن أحد التجار الذي يسميه زملاؤه {حوت لندن} بمبلغ 6 مليارات دولار في الأسواق المالية في عام 2012. في الصين، قيل إن المديرين استعانوا بابن مسؤول رفيع المستوى للفوز بعقود مربحة. في غضون ذلك، يواجه البنك في الولايات المتحدة تهماً باستعمال إجراءات مشبوهة لجمع المال من حاملي بطاقات الائتمان. زاد الوضع سوءاً بسبب الادعاءات التي اعتبرت أن البنك كان شريك بيرني مادوف في إعداد مخطط {بونزي}، وقيل إن البنك تلاعب بأسعار الكهرباء في كاليفورنيا وميشيغان.نجح ديمون في التوصل إلى تسويات كانت كفيلة باختفاء معظم تلك الادعاءات مقابل مبالغ مقبولة نسبياً من الأموال ومن دون الاعتراف بارتكاب الأخطاء. لكن في ما يخص التسوية الأخيرة التي تغطي أيضاً مسؤولية البنك المحتملة عن الاحتيال في بيع الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، تريد وزارة العدل الأميركية أن تصبح هذه القضية عبرة للآخرين وهي تصر على مبلغ هائل يصل إلى 13 مليار دولار.بما أن معظم الصفقات المثيرة للجدل قام بها مصرفا {بير ستيرنز} و}واشنطن ميوتشوال} اللذان أنقذهما ديمون خلال الأزمة المالية بإصرار من الحكومة، هذا الوضع ليس منصفاً جداً. بالتالي، لن يواجه ديمون أي صعوبة في تحمّل الكلفة.قد يكون هذا الثمن حتمياً، لكن يمكن أن يدفع ديمون بكل سهولة كلفة هذه التسوية الضخمة. يقول دينيس كيليهر من منظمة {أسواق أفضل} ( Better Markets) التي تحارب لتعزيز الشفافية في القطاع المالي: {قد يتم خصم الضرائب من بعض الصفقات أو ربما الكثير منها}. يتوقع المحللون أن يتابع البنك ازدهاره. يقول الخبير مايك مايو: {لا يزال بنك جي بي مورغان مؤسسة صلبة}.يبقى ديمون على رأس شركة مالية دولية عملاقة مع أصول تصل قيمتها إلى 2.5 تريليون دولار. حقق البنك أرباحاً قياسية حتى خلال الأزمة. ومع ذلك، بلغ راتب ديمون مع العلاوات 11.5 مليون دولار حين تسبب {حوت لندن} بتراجع نتائج البنك في السنة الماضية.كيف انهارت القوانينغداة الانهيار المالي في عام 2008، بدا وكأن مجموعة العشرين التي تمثل أبرز اقتصادات العالم كانت تنوي كبح قوة القطاع المالي. في تلك الفترة، كان القادة السياسيون يقولون إن أي بنك يجب ألا يكون {أكبر من أن ينهار}، وكثر الحديث عن فرض قوانين عالمية جديدة على جميع المؤسسات المالية ومختلف اللاعبين والمنتجات.لكن سرعان ما انهارت الوحدة الدولية في هذه المسألة. اليوم، يحدد كل بلد تشريعاته الخاصة (ينتج المنظّمون كماً هائلاً من القواعد والقوانين السخيفة) وهي محط سخرية من النخبة المالية العالمية. يسميها البعض {التسونامي التنظيمي}.لكن تولّد الفوضى اللاحقة فرصاً جديدة لتلك الأطراف: يعمل الآن أكثر من ألفي ناشط باسم القطاع المالي في واشنطن، ما يساوي أربعة عناصر لكل سيناتور وعضو في الكونغرس. يشمل أكثر من 70% من هؤلاء الناشطين سياسيين سابقين أو منظمين ماليين، وهم يعلمون طريقة سير الأمور في هذا المجال: تتعلق المسألة بإنتاج كميات هائلة من الطلبات والآراء والبيانات. يصف الخبير المالي كيليهر الأمر {بحرب جماعات الضغط} بالورق.أعضاء الكونغرس خصوم ضعفاء. في النهاية، لم ينجح عدد منهم في واشنطن إلا بفضل مساهمات القطاع المالي في حملاتهم: عملياً، لا أحد يتبرع للحملات السياسية بقدر قطاع المصارف والعقارات.نتيجةً لذلك، يتم التخلي تدريجاً الآن عن بنود {قانون دود فرانك لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك} (تشريع شامل طرحته الحكومة الأميركية بهدف إخضاع قطاع الخدمة المالية لقوانين صارمة).ماذا عن ويل؟يؤدي التقارب بين السياسيين والبنوك دوراً مهماً في تحديد مستقبل راؤول ويل، المصرفي السويسري الموجود راهناً في عهدة الشرطة الإيطالية. في بنك {يو بي أس}، كان مسؤولاً عن الأصول التي تصل قيمتها إلى 1.4 تريليون دولار والتي يعهدها الأثرياء والمشاهير للبنك، بما في ذلك عدد من السياسيين بحسب الادعاءات. يُقال إن دليل هاتف ويل يحمل مفاجآت مدوّية. بصفته رئيس أكبر قسم لإدارة الأصول في العالم، كان مسؤولاً عن {الأفراد النافذين سياسياً}.ربما شعر ويل بالأمان لهذا السبب حين سافر إلى إيطاليا. مزح بعض النقاد حين اعتبروا أنه ما كان ليتعرض للاعتقال لو تلقت الحكومة الإيطالية تحذيراً مسبقاً عن خطة الشرطة. منذ أن اضطر وزير الميزانية الفرنسي جيروم كاهوزاك إلى الاستقالة في شهر مارس الماضي وسط ادعاءات عن إخفاء أموال في حساب مصرفي غير معلن في بنك {يو بي أس}، انتشرت مخاوف من فضح عدد إضافي من السياسيين بتهمة التهرب من الضرائب.نتيجةً لذلك، لم يتضح بعد ما سيحصل حين يقوم النظام القضائي الإيطالي بتسليم المصرفي السويسري إلى الولايات المتحدة. يجب ألا ننسى أن ويل له معارف ممتازة على الجانب الآخر من الأطلسي. يرتبط ويل مثلاً بعلاقة مهنية قديمة مع الرئيس السابق لقسم {مجموعة الأميركيتين} في بنك {يو بي أس}، روبرت ولف، الذي يلعب الغولف دوماً مع الرئيس الأميركي باراك أوباما.مشاكل في بروكسلتبذل جماعات الضغط المصرفية في بروكسل قصارى جهدها لتخفيف الضوابط عن الهيئات التنظيمية. في الشتاء الماضي، مررت ألمانيا {قانون فصل البنوك} الذي يُجبر المؤسسات المالية على الفصل بين العمليات التجارية والاستثمارية في البنوك. لكن تُعتبر هذه الخطوة غير فاعلة عموماً. إذا تبنى مفوض الاتحاد الأوروبي للسوق والخدمات الداخلية، ميشيل بارنييه، أفكار برلين عند إعداد مسودة تشريع لأوروبا كلها، فلن تجد البنوك الكبرى سبباً كي تخاف على نموذجها المهني (يشمل كل شيء من قروض صغيرة إلى صفقات دولية ومضاربة بالعملات).في الوقت الراهن، تستعمل حكومات أوروبا معظم طاقتها لإنقاذ مصارفها المشلولة بمساعدة البنك المركزي الأوروبي. صحيح أن اختبارات الميزانية العمومية التي طرحها البنك المركزي الأوروبي أخيراً تهدف إلى مساعدة البنوك أخيراً على التخلص من الأصول السامة، لكن لا تزال المفاهيم مبهمة حول طريقة إقفال المؤسسات المالية الهشة من دون تعريض النظام المالي للخطر وحول الجهة التي يجب أن تتحمّل التكاليف.يقول الخبير المالي هاو: {لا يزال الطريق طويلاً قبل تطوير حل فاعل لتصفية البنوك الكبرى}. يخشى السياسيون إخافة الدائنين الذين يتعاملون مع البنوك. ويخشى السياسيون ومقدمو الخدمات المالية أن يضروا بمصالح بعضهم البعض.
توابل - EXTRA
تقييم الوضع المصرفي... لماذا لم يُعاقَب المصرفيون بعد؟
07-11-2013