يقول الفيلسوف جون ستيوارت ميل إن الصلاح الذهني للبشر يتوقف عليه صلاح جميع شؤونهم الأخرى. ولا يتحقق الصلاح الذهني إلا عن طريق إطلاق حرية الفكر والمناقشة والتعبير عن الرأي، وتبريره لذلك هو أن ضرر قمع التعبير عن الرأي أكبر من ضرر السماح له. فإن كان الرأي حقاً فبمنعه نحرم الأجيال الحاضرة والقادمة فرصةَ معرفة الحقيقة، وإن كان الرأي خطأ فإننا نحرمها إدراكَ الحق والتمكن منه عندما يصطدم بالخطأ.

Ad

كذلك يرى ميل أن من يحاول أن يمنع رأياً بحجة أنه متيقن من خطئه فإنه بذلك يدّعي امتلاكه لليقين المطلق والعصمة من الخطأ، وبما أنه لا يوجد من هو معصوم عن الخطأ، ولا يوجد من يمتلك الحقيقة كاملة، فإن السبيل لمعرفة جوانب الحقيقة المختلفة لا يتم إلا عبر إتاحة الفرصة للآراء المتعارضة لأن تتصارع.

هكذا فهمت الشعوب ذات الأنظمة الديمقراطية المتقدمة حرية الفكر والتعبير، وهكذا تعاملت معها، حيث أصبح الاختلاف الفكري والتعبير عنه سمة من سمات المجتمع، بل ضرورة لتقدمه وازدهاره، وما التسابق في انتقاد ما يطرح من آراء وأفكار إلا وسيلة لتهذيبها وضمان لتطورها، فانتشرت ثقافة تشجيع الانتقاد بدلاً من تجنبه، حيث اعتبرها أصحاب الرأي وسيلة لصيانة آرائهم وسد الثغرات حولها.

أما الشعوب المتخلفة ديمقراطياً فيغلب عليها طابع الاستبداد بفرض الآراء وتقييمها واستهجان محاولة النقاش حولها أو تفنيدها أو نقدها. فكثير من أصحاب الرأي يدّعون امتلاك الحقيقة والرأي الصائب دون الحاجة إلى مناقشة ما يثار من اعتراضات، وكذلك تحريم الدفاع عن الآراء المخالفة بحجة أنها آراء فاسدة أو لا قيمة لها. فالبعض يطلق الأحكام على مواضيع مختلفة نيابة عن الآخرين، مع محاولة إجبارهم على الإيمان بها دون السماح لهم بسماع ما يمكن أن يطرحه الرأي المعارض، فتستبدل ثقافة الاختلاف والتعددية الفكرية بثقافة الاستبداد الفكري وتخوين كل من يعارض الرأي. يمارِس هذا النوعَ من الاستبداد الفكري البعض ممن لديه سلطة دينية، اجتماعية، أو سياسية، وقد يمارسه الأفراد أيضاً ممن لا تتسع عقولهم لتقبل النقد والآراء المخالفة.

إن ممارسة الاستبداد الفكري، مهما اختلفت نماذجه، هي العائق الأكبر نحو التحول إلى الديمقراطية الكاملة، فلا ممارسة لديمقراطية حقيقية دون إطلاق حرية الفكر والمناقشة والتعبير وتقبل الآراء المختلفة والجدل حولها، وما عدا ذلك فهو محاولات بائسة لتكريس نماذج مختلفة من الاستبداد.