لأن القضاء من أعلى المراتب وأرفع المناصب، فقد وجب أن ينال القاضي من الجلال والوقار مناله، فلا يمازح شريفاً فينزل من هيبته، ولا دنيئاً فيجترئ عليه، ولا يخالط العامة والدهماء ويُكثر من الخلوة بالنفس ومجانبة الناس لتوقي ما يشينه أو يجرح أمانته أو يحط من قدره وهيبته، للنأي به عن شرار الناس ذوي السمعة السيئة والسيرة الذميمة، ليرتفع بذلك عن مواطن الظن والريبة، لأن النزول إلى ذلك تبذل يحط من قدره ويقلل من هيبته فتزدريه العيون، أو تغتال من سيرته الظنون. والنأي به عن الصفق بين العامة والدخول في معامع الأفراد وطنب المكاسب حفاظاً لعلو مقامه وشريف وظيفته ونبذ احتمال استمالته.

ومن الضروري أن يعمل المجتمع على رفعة منصب القاضي، ويحفظ له المروءة وعلو الهمة ويصون هيبته، ويضمن نزاهته، ويعظم رهبته لأنه أهل لأن يُنظر إليه ويُقتدى به، فهو يُعرف به الحق، وعلى الدولة أن تُجزل لهم في العطاء والأرزاق، إذ لا صحة لقضاء إلا بعدل، ولا يحمد قاض دون عدالة ونزاهة، ولا نزاهة وتنزيه إلا بكفاية وكفالة أرزاقهم ورفعة معيشتهم ورفع هموم العيش وصرف كدر الرزق عنهم وعن ذويهم، وأن توفر لهم الدولة سعة في رزقهم والزيادة في تأمينهم وأمنهم في خاصة أنفسهم وأولادهم وصحتهم وأموالهم، وأن توفر لهم دروب المعرفة والعلم والتدريب توقياً لما حذرنا منه رسولنا الكريم في حديثه الصحيح "إنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليحملها أو يذرها".

Ad

كما يجب على الدولة أن توفر لهم التأمين الصحي والمسكن وسبل الانتقال، كل ذلك يعد من مقومات هيبة القضاء واستقلاله، وأن تضمن له ذلك وتعينه عليه، فالقاضي بشر لا تمنعه شيئاً قبل أن تعطيه، ولا تحرمه قبل أن تكفيه، ولا تحظر عليه قبل أن تنفق إليه، وعن الإمام علي- كرم الله وجهه- عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه أوصاه بالقضاة قائلاً "ثم أكثر تعاهد أمره -أي القاضي- وقضاياه، وأبسط عليه من البذل ما يستغني به عن الطمع، وتقل حاجته إلى الناس، واجعل له منك منزلة لا يطمع فيها غيره، حتى يأمن من اغتيال الرجال إياه عندك، ولا يحابي أحداً للرجاء، ولا يصانعه لاستجلاب حسن الثناء، وأحسن توقيره في مجلسك، وقَرِّبه منك".

وجاء في كتاب "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام"، لابن فرحون اليعمري، أنه ينبغي على القاضي أن يجتهد في أن يكون جميل الهيئة، ظاهر الأبهة، وقور المشية والجلسة، حسن النطق والصمت في حينه، محترزاً في كلامه عن الفضول وما لا حاجة له فيه، كأنه يعد حروفه على نفسه عداً، فإن كلامه محفوظ وذَلَله ملحوظ، وليقلل عند كلامه من الإشارة بيده والالتفات بوجهه، فإن ذلك عمل المتكلفين، وصنيع غير المتأدبين، وليكن ضحكه تبسماً، ونظره فراسة وتوسماً، وإطراقه تفهماً، ويكون دائماً متردياً بردائه، حسن الزي، يلبس ما يليق به، فإن ذلك أهيب في حقه، وأجمل في شكله، وأدل على فضله ورجحان عقله، وفي مخالفة ذلك نزول وتبذل، وليلزم من السمت الحسن، والسكينة والوقار ما يحفظ مروءته، فتميل إليه الهمم، ويكبر في نفوس الخصوم الجرأة عليه، من غير تكبر يظهره، ولا إعجاب يستشعره، فكلاهما شين في الدين، وعيب في أخلاق المؤمنين.

ويجب على الدولة ان تكفل للقضاء مجلساً ومقاماً من أبنية ودور المحاكم بأن يكون دار القضاء متميزاً حتى عن مقار الوزارات، لأنه أبلغ في الهيبة وأوقع في النفوس وأعظم لحرمة الشرع الذي يقوم القاضي على تطبيقه، وأن يكون مقر القضاء محفوفاً ومحفوظاً من رجال الأمن مصاناً بالهيبة والوقار إجلالاً لأمر القضاء، فيجلس القاضي في سكينة ووقار، ويكون الناس في مجالسه في أدب وهدوء وسكينة، وكأن على رؤوسهم الطير، ويمتثلون بين يديه إجلالاً لهيبته، وتعظيماً لقضائه، فيكون مجلسه مهيباً، فيذعن المتخاصمون إلى الحق، لأن القضاء فصل للخصام وقطع للنزاع بإلزام شرعي، فوجب أن يكون المجلس مهيباً ومصاناً من اللغط والفحش والتهاتر والتلاسن، لأن مجلس القضاء يجب أن يتميز عن مجالس غيرهم، حتى يصبح القاضي، وكما قال الإمام علي (رضي الله عنه) "لا يخاف في الله لومة لائم".

ويجب على قوانين الدولة أن تكفل تأديب كل من يسيء للقضاء سواء في أشخاصهم أو أحكامهم أو في مجلسهم؛ لأن مقام ومجلس القاضي لابد أن يكونا مصانين من اللغط والفحش، والتهاتر والتلاسن أياً كانت وسيلته، ويستوي في المؤاخذة بالإساءة أن تكون موجهة للقاضي أو لحكمه أو أوامره أو معاونيه أو أن تكون في مجلسه فيما بين الخصوم، سواء بالقول أو الفعل أو الإشارة، ولا يجوز تناول القاضي أو عمله بالتعقيب على حكمه -بغير الطريق الذي حدده القانون للطعن على الأحكام أو تناولها في مجالس العلم- سواء بالمدح أو بالقدح لأن كليهما يُضعف القاضي وينال من هيبته ووقاره، ويُغري بالاجتراء عليه، وهو ما أكده عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بقوله: "لأعزلن فلاناً عن القضاء ولأستعملن رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه"، أي فر بعيداً عنه وفارقه.

كما يجب على الدولة أن تتخذ كل التدابير لسرعة تنفيذ أحكام القضاء دون تأخير أو إبطاء لتحقيق العدالة الناجزة، لتعظم بذلك هيبة القضاء في نفوس العامة وتحقيق الردع العام، ورد الحقوق إلى أصحابها، وتهدأ نفوس وقلوب المظلومين أو المتخاصمين، لأن العدالة البطيئة أو إذا لم توضع أحكام القضاء موضع التنفيذ ضاعت هيبة القضاة وجهدهم، وصارت أحكامهم عنواناً لضعف الدولة وفقدان الثقة العامة واليأس والقنوط، فضلاً عن تعطيل مصالح المتقاضين وإلحاق الضرر بهم، وهو ما أكده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في رسالته إلى قاضيه أبي موسى الأشعري التي جاء فيها ".... وأنفذ الحق إذا وضح فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له".

ومن الأعاجيب التي نسمع عنها منذ سنوات طويلة الترويج لما يسمى بـ"التحكيم" كبديل للقضاء، بدعوى تأخر الفصل في المنازعات أمام القضاء، وبدلاً من معالجة هذه الأسباب أصبحنا نروج في كل مكان للتحكيم، وأصبحنا كمَن انطلق يبحث عن أب آخر غير شرعي حين رأى والده مريضاً بدلاً من أن يجتهد في علاجه وكفالته. فالإحصاءات تكشف حجم الجور الذي يحيق بالمتقاضين العرب في هيئات التحكيم الدولية، وتبرهن على أن كل الاتفاقيات الدولية المنظمة للتحكيم وتنفيذ أحكامه أُعدت وأُبرمت من قبل الدول الكبرى لرعاية مصالح شركاتها الدولية الكبرى التي تستنكف وتستكبر الخضوع للقضاء الوطني، وبصفة خاصة اللجوء إلى التحكيم بالخارج، وقد كنت -ومازلت- أرى أن اللجوء إلى هيئات التحكيم الأجنبي أو الموافقة على الخضوع لها مخالفة صريحة لقول رسول الله (ص) حين قال: "إياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن أنظروا إلى رجل منكم يعلم من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه"... وهذا "الرجل" المشار إليه في الحديث الشريف، هو القضاء الوطني الذي يتمثل في محاكمنا الوطنية وحدها دون غيرها.