استعاد الوضع بالنسبة إلى الرئيس فلاديمير بوتين هدوءاً ظاهرياً، فقد أصبحت الانتخابات الرئاسية وراءه وخلت غالبية شوارع موسكو من المحتجين ولا تلوح في الأفق أي صدمات سياسية أو اقتصادية من النوع الذي يمكن أن يطرح تهديداً على سلطته. لا يزال حكمه آمناً على المدى القريب.لكن سيواجه بوتين مشكلتين كبيرتين في عام 2013 وما بعده. تتعلق المشكلة الأولى بعجز الكرملين عن التوفيق بين أولويتين ماليتين متناقضتين: استعمال سخاء الدولة للتغطية على الاستياء الاجتماعي والحفاظ على سلامة الاقتصاد الكلي في البلد بهدف ضمان استقرار معدلات النمو. خلال المرحلة التمهيدية للانتخابات الرئاسية، أطلق بوتين مجموعة من الوعود، بدءاً من رفع الأجور وصولاً إلى عدم تغيير سن التقاعد. ستكلّف تلك الوعود 1،5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2018، لكنّ الازدهار المبني على عائدات النفط يوشك على النهاية ولا مفر من التضحية بأمور معينة. قد تتم التضحية بمنصب رئيس الوزراء ديمتري مدفيديف الذي أصبح أشبه بكبش محرقة محتمل ينتظر ساعة نهايته. من المتوقع أن تسير خطة الخصخصة الموعودة منذ فترة طويلة بوتيرة بطيئة ومتقطعة، علماً أنها تهدف في الأساس إلى رفع عائدات الميزانية وتعزيز الفاعلية في الشركات التي تملكها الدولة. بشكل عام، سيكون الاستثمار محدوداً: لن تتابع الدولة مسارها بسبب إنفاقها الاجتماعي، ويشير هروب رساميل بقيمة 65 مليار دولار في عام 2012 إلى أن القطاع الخاص لن يستطيع التعويض عن الخسائر. يزداد الاقتصاد الروسي ضعفاً لأن الكرملين لا يسيطر على العاملَين اللذين يؤثران بشدة على استقرار الوضع الاقتصادي (وبالتالي السياسي) في البلد: سعر النفط وكلفة الرساميل.أما المشكلة الثانية التي يواجهها بوتين، فترتبط بطرح رؤية تضمن استمرار حكمه. خلال معظم فترات وجوده في السلطة، ركز الكرملين في خطابه على الاستقرار والنمو واستغلال عائدات النفط لرفع مستوى معيشة الطبقة الوسطى وزيادة نفوذ البلد على الساحة العالمية. لكن ارتفع عدد الروس الذين لم يعودوا مقتنعين بذلك الخطاب، ويبدو أن بوتين والمحيطين به لا يعلمون ما يجب فعله خلال ولايتهم الأخيرة عدا محاولة التمسك بالحكم. في الوقت نفسه، خسر بوتين دعم المثقفين من الطبقة الوسطى في المدن الكبرى.لذا يركز الرئيس ومستشاروه الآن على استمالة الفئات الريفية والصناعية في البلد. نتيجةً لذلك، سيظهر أسلوب سياسي (يذكّرنا من ناحية معينة بالثقافة السياسية المنقسمة في الولايات المتحدة) ليضع البلدات في وجه المدن والطبقات المهنية في وجه الطبقات العاملة، فضلاً عن ترسيخ المواجهة بين روسيا «الحقيقية» والنخب غير الموثوقة وغير الوطنية.ستكون الإيديولوجيا الجديدة التي تحرك الكرملين عبارة عن خليط من القيم المحافِظة والمواقف المستوحاة من الكنيسة الأرثودوكسية ونزعة مشبوهة من كره الأجانب. ستؤثر هذه العوامل حتماً على الأحداث المحلية (من المتوقع أن تتكرر مشاهد مثل محاكمة فرقة «بوسي ريوت») والأحداث الخارجية (سينمو الشرخ مع الغرب وقد بدأ يتحقق ذلك بعد قرار وقف نشاطات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في روسيا). سيستفيد بوتين رغم كل شيء من عقد صفقات كبرى مع شركاء خارجيين وسيرأس قمة مجموعة العشرين في سانت بيترسبورغ. لكن على مستوى الدبلوماسية الدولية، لن تبدو روسيا شريكة جدية من وجهة نظر واشنطن وبروكسل.نزعة بوتينية بلا بوتينفي الوقت الراهن، لا يشعر سكان مختلف المناطق والعاملون في القطاع الصناعي بوجود أمور مشتركة كثيرة تجمعهم بالمتظاهرين في موسكو. لكن بدأ هذا الوضع يتغير. فقد راحت المواقف في المحافظات تزداد حدة تجاه بوتين، وقد تؤدي الضغوط الخارجية (انهيار أسعار النفط واستمرار الأزمة في منطقة اليورو) إلى تراجع مستوى المعيشة وانتشار مشاعر الاستياء. ستقدم انتخابات حكّام المحافظات والمشرعين (أُعيد إدراجها في عام 2012) فرصة للسكان المحليين كي يصبوا غضبهم على المسؤولين في حزب «روسيا الموحدة» الذي يرأسه بوتين.سيواجه بوتين هذه التحديات عبر استعمال مجموعة أدوات أكثر صرامة من تلك التي استخدمها في الماضي. يفضّل كبير المهندسين السياسيين الجديد فياتشيسلاف فولودين اتباع تكتيك صارم وخوض مواجهة مباشرة. كذلك، يُعتبر رئيس هيئة التحقيقات النافذ، ألكسندر باستريكين، مناصراً آخر للمقاربة العدائية.في المقابل، تفتقر المعارضة إلى الوحدة والدعم الوطني. مع ذلك، يشعر الكرملين بالخوف. قد يحقق بوتين بعض الانتصارات على المدى القريب بفضل حملة الاعتقالات والقوانين القمعية، لكن ستكون هذه الممارسات كفيلة بتهميش فئات واسعة وقد تصبح بغيضة حتى بالنسبة إلى بعض أعضاء النخبة الحاكمة. أما الكابوس الأكبر الذي يخشاه بوتين، فهو أن يدرك البعض أن صمود النظام الذي بناه قد يصبح أكثر أماناً من دون رئيسه.
توابل
روسيا المنقسمة... بلد بشعبين!
28-12-2012