عندما تُوفي السلطان مراد الرابع، لم يكن هناك ذكر من سلالة آل عثمان إلا شقيقه، الأمير إبراهيم شاهزاده، لذلك تولى السلطنة بحكم الضرورة، ولم يكن شخصية مؤهلة للحكم إطلاقاً، فعندما كان في الثانية من عمره مات والده السلطان أحمد، وعاش حياته في ظل سلطنة أخوته عثمان الثاني ومراد الرابع بعيداً عن أي مهام سياسية أو عسكرية، ولم يهتم به أحد بتاتاً، فكان حبيس جناحه الخاص في الحرملك.

Ad

من محبسه شاهد الأمير إبراهيم إعدام إخوته الكبار الأربعة بأوامر من السلطان عثمان ثم السلطان مراد، إنها مأساة عائلية مكررة، كان تأثيرها مدمراً على الأمير إبراهيم الذي ترقب صدور قرار إعدامه في كل لحظة، ما ترك اضطراباً نفسياً في شخصية الأمير الشاب لازمه طوال حياته، وعندما تولى السلطنة التي جاءته عفواً، كان أول سلطان عثماني يجلس على العرش دون استعداد علمي أو عسكري.

لم يكن الأمير إبراهيم ينتظر إلا الموت في ساعات طويلة يقضيها بلا عمل في جناحه، وعندما اندفع الآغوات لتهنئة السلطان الجديد، ظن أنهم يريدون قتله وأنها مكيدة من أخيه السلطان مراد لاختبار ولائه، فرفض المُلك وأعرض عنهم، وقال لهم إنه يفضل السجن ولم يصدقهم، حتى قابلته أمه السلطانة كوسم ومعها جثة السلطان مراد، فتيقن من الخبر ورضي أن يتولى سدة السلطنة، وتقلد سيف عثمان بن أرطغل في مسجد أبي أيوب الأنصاري في إستانبول، وكان مما خطب أنه قال: «الحمدلله، اللهم جعلت عبداً ضعيفًا مثلي لائقاً لهذا المقام، اللهم أصلح وأحسن حال شعبي مدة حكمي».

ورغم رغبة السلطان إبراهيم الأول الأكيدة في السير خلف شقيقه السلطان الراحل في سيرته، إلا أن البون كان واسعاً بينهما، فالسلطان إبراهيم لم يمتلك شخصية شقيقه السلطان مراد الأسطورية، ولا عزمه الذي لا يقهر، على العكس كان السلطان إبراهيم ضعيف الشخصية مضطرباً بلا حدود، ما جعله ألعوبة في يد والدته السلطانة الأم كوسم ماه بيكر، التي تنفست الصعداء برحيل ابنها السلطان مراد، الذي جردها من جميع صلاحياتها، فاستعادت من جديد صلاحيات منصبها كسلطانة أم، وهو منصب يأتي في البرتوكول العثماني بعد منصب السلطان العثماني مباشرة.

لم يهنأ السلطان إبراهيم بمنصبه الذي يخوله سلطات واسعة، فالجميع تكالب على تجريده من سلطانه، الصدر الأعظم قرا مصطفى باشا، الذي كان يرتعد لمجرد سماع اسم السلطان مراد، تحول إلى ديكتاتور يعامل السلطان الجديد باستهتار، الإنكشارية عادت إلى فسادها القديم، أما السلطانة الأم كوسم ماه بيكر، فدخلت مع ولدها في لعبة البقاء للأقوى، كان السلطان إبراهيم مريضاً، لكنه لم يكن أحمق، يعرف عشق أمه للسلطة، واستعدادها الكامل لارتكاب جرائم يشيب من هولها الولدان من أجل المزيد من السلطة، من جانبها دأبت السلطانة الأم على تذكير ولدها بفضلها عليه، حمت أيام سلطنة مراد الرابع من القتل، عندما أراد مراد قتل أخيه المتبقي على قيد الحياة، تدخلت أمهما وقالت له: «هل تريد أن تنقرض سلالة آل عثمان على يديك؟!»، فالواقع أنه لم يكن هناك وريث ذكر للدولة باستثناء الأمير إبراهيم، وهو وضع غير مسبوق للسلالة العثمانية في تاريخها الطويل.

لذلك دخل السلطان الجديد في صراع مع والدته السلطانة كوسم ماه بيكر، المتشبث بالحكم، وهو صراع أخذ يتوسع بمرور الأيام، فالسلطانة تريد أن تدس أنفها الجميل في جميع شؤون الدولة، والسلطان الشاب يريد أن يمارس صلاحيات منصبه كما كان يفعل نموذجه الأوحد شقيقه الأكبر السلطان مراد، بين هذا وتلك دارت صراعات الحرملك والقصر، ولم تهدأ قليلاً إلا في ليلة عاصفة في جناح السلطان، عندما تواجه مع أمه مباشرة، لم تنته المواجهة إلا بتهديد الابن لأمه بنفيها خارج قصر الباب العالي، إذا أصرت على التدخل في شؤون الدولة وإرسالها إلى قبرص، عرفت السلطانة الأم أن وقت التراجع خطوة قد حان، أمام اضطراب ابنها نصف المجنون، لذلك قررت الالتزام بأوامر السلطان مؤقتاً.

مع إنجاب جواري السلطان أكثر من ذكر انتهت مشكلة انقراض آل عثمان، وبات هناك وريث للعرش هو الأمير محمد، المولود في سنة 1642م، لكن الثمن الذي دفعه السلطان إبراهيم من أجل تأمين السلالة العثمانية كان باهظاً، فالسلطانة الأم تحت ستار توفير ولي عهد للدولة، أسرفت في تقديم الجواري لابنها السلطان الشاب الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، أنهك السلطان الشاب سريعاً واندمج سريعاً في حياة الحرملك وعشق الجواري، وانجرف في حياة البزخ حتى عرفت فترة حكمه بعصر «سامور دوري»، والسامور نوع من أنواع الفرو الفاخر، والذي شاع استخدامه في القصر العثماني وكان السلطان العاشق يهديه لجواريه.

على الرغم من أن السلطان إبراهيم بدأ خطوات جدية لفتح جزيرة كريت القريبة من السواحل العثمانية، ونجحت قواته في فتح الأجزاء الغربية والوسطى من الجزيرة وانتزاعها من يد البندقية، إلا أن قادة الجيش العثماني بدأوا في التكتل من جديد ضد السلطان الشاب، الذي بدأ يفكر في التخلص من آغوات الجيش كما فكر عثمان الثاني من قبل، لكنهم علموا بمقصده مبكراً، فأعلنوا الثورة ضد السلطان وأجبروه على عزل الصدر الأعظم الجديد هزار بارة أحمد باشا في 7 أغسطس 1648، ثم قطعوا الصدر الأعظم إربا بسيوفهم، أجبر السلطان على تعيين الوزير قوجا محمد باشا، ولم يكن إلا صنيعة آغوات الجيش.

زاد الطين بلة أن من حرك هذه المؤامرة من خلف الستار، كانت السلطانة الأم كوسم ماه بيكر، الراغبة في المزيد من النفوذ والسلطة، حتى ولو تم ذلك بإزاحة ابنها من عرش الدولة العثمانية، وكانت ترى أن إزاحة ابنها السلطان الذي هددها صراحة بالنفي، ستعود عليها بالفائدة لأن ولي العهد الأمير محمد شاهزاده طفل لم يتجاوز عمره السادسة بعد، وفي حال توليه السلطانة فستعين السلطانة كوسم ماه بيكر في منصب نائبة السلطان وتصبح من جديد على قمة هرم السلطة العثمانية بلا منازع.

تحققت رغبة السلطانة الأم ونجحت المؤامرة في إزاحة السلطان إبراهيم من فوق العرش، وأعدم بعد عزله بعشرة أيام في 18 أغسطس 1648م، ودفن في جنح الليل بجوار قبر عمه مصطفى الأول في مسجد «آيا صوفيا»، ولم تكن كوسم خاتون امرأة ذات قلب، فلم تكتف بخلع ولدها بل سلمته إلى الجلاد ليقتله، عرفت كيف تنتقم من ابنها الذي هددها يوماً بالنفي في حالة استمرارها في التدخل في شؤون الدولة، دبرت المؤامرة بمهارة تحسد عليها إلى حد أن الشعب في إستانبول أشفق على السلطانة التي تعرضت للمصائب بخلع ابنها وقتله، ولم يكن الشعب يدرك أن السلطانة تضحك في جناحها الخاص وتحتفل بنجاحها الكبير.

سلطنة الأغوات

تحقق حلم السلطانة كوسم ماه بيكر بالحصول مجدداً على منصب نائب السلطان، لم تذرف الكثير من الدموع على ابنها القتيل، ما يشغل بالها هو السلطة فقط، تم تعيين ابن السلطان القتيل، الطفل محمد الذي لم يبلغ بعد السابعة من عمره سلطاناً على أقوى دولة في العالم، حصلت والدته خديجة تارخان على لقب السلطانة الأم، لكن الجدة كوسم المهيمنة على الحرملك، ظلت صاحبة النفوذ الأكبر بحصولها على لقب نائبة السلطان بصلاحيات غير مسبوقة، لكن فترة نيابتها عرفت في التاريخ بـ»سلطنة الآغوات»، بعد أن فرض قادة الإنكشارية سطوتهم على الدولة كلها، وتقاسموا السلطة والنفوذ مع السلطانة كوسم، كان هدفهم جمع أكبر قدر من المال بجوار سلطتهم، فيما رغبت السلطانة في بث سيطرتها وإصدار الأوامر، فعشقها لكرسي العرش بلا حدود.

لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فمقتل سلطان للمرة الثانية على يد الإنكشارية في أقل من ربع قرن بعد مقتل السلطان عثمان الثاني، فجر موجة من الغضب في أركان الدولة العثمانية، وقادت فرق السباهية الثورة المضادة ضد الإنكشارية، لتندلع مواجهات مفتوحة في العاصمة العثمانية بين فرق جيش كان يعد مضرب الأمثال في النظام، قتل المئات خلال المواجهات لكن الإنكشارية خرجت منتصرة بعد تنفيذ مذابح لفرق السباهية.

خالفت الإنكشارية التقاليد العثمانية بتعيين أحد قادتها صدرا أعظم للبلاد، على الرغم من أنه لم يتول أي منصب وزاري سابق، إلا أن قره مراد آغا، كان عسكرياً جيداً ورجل دولة ذكياً، لذلك لم ير ضرورة للاستمرار في منصب الصدر الأعظم بعد أن فشل في إقناع بقية قادة الإنكشارية بالخلود إلى الهدوء حتى تعود الدولة إلى سابق عهدها، رفضوا وهددوه بالقتل، لذلك قدم استقالته فوراً بعد أن رأى استحالة إعادة الجنود إلى الثكنات.

الفوضى التي ضربت الدولة كانت تلقى استياء الشعب التركي، الذي ذاق صنوف العذاب والهوان على يد الإنكشارية، ففاض الكيل بالشعب وخرج في ثورة عنيفة ضد نفوذ السلطانة كوسم ماه بيكر وآغوات الإنكشارية معاً، وكان هدف الثورة واضحاً، القضاء على نفوذ قادة الجيش وعودتهم للثكنات، وبطبيعة الحال لم تكن كوسم ماه بيكر، فضلا عن أنها غير قادرة على ردع الإنكشارية، راغبة في التخلص من أعوانها المخلصين، فالقضاء عليهم يعني القضاء على نفوذها الواسع، لأنها ببساطة شريكة معهم في أكثر أعمالهم قذارة، لذلك قرر الشعب الغاضب اللجوء إلى السيدة الثانية في الحرملك السلطانة الوالدة خديجة تارخان، التي كانت في حقيقة الأمر أحد من دعم تلك الثورة منذ البداية.

وترجع أصول السلطانة خديجة إلى أوكرانيا، كالسلطانة خُرَّم، عندما أسرت من قبل قبائل التتار وبيعت في أسواق العبيد، تجمع المصادر العثمانية على جمالها الآخاذ فهي «طويلة القامة، لطيفة القوام، زرقاء العينين، ذهبية الشعر، بيضاء صافية اللون»، وعندما كانت في الثانية عشرة من عمرها أرسلت إلى القصر السلطاني، يقال إن السلطانة عاتكة بنت السلطان أحمد هي من اشترتها وتولت تربيتها، ثم قدمتها إلى أخيها السلطان إبراهيم حيث أصبحت محظيته المفضلة وأنجبت له ابنه ولي العهد والسلطان من بعده محمد الرابع، وعندما قتل السلطان إبراهيم، وتولى السلطان محمد نشب صراع على لقب نائبة السلطان الذي كان مفترضاً أن يذهب إلى السلطانة خديجة تارخان باعتبارها أم السلطان، إلا أن السلطانة الجدة كوسم رفضت هذا الأمر تماماً، وقررت الاحتفاظ باللقب لنفسها، بحجة أن خديجة تارخان صغيرة لم يتجاوز عمرها الحادية والعشرين، وهو ما أشعل الصراع بين السلطانتين وانحاز رئيس الآغوات والصدر الأعظم لخديجة تارخان، في حين أيدت فرق الإنكشارية السلطانة كوسم.

رأت السلطانة الأم منزوعة الصلاحيات خديجة تارخان أن الفرصة سانحة للتخلص من نائبة السلطان كوسم ماه بيكر، التي احتكرت جميع صلاحيات القصر وقادت البلاد إلى الهاوية، ومن جهته، رأى الشعب التركي في خديجة تارخان فرصة ذهبية لتحجيم تلك المرأة المخبولة بالحكم إلى حد التخلص من أبنائها، اتفقت آراء الشعب على ضرورة الإطاحة بكوسم من على قمة السلطة لإضعاف شوكة الإنكشارية.

في المقابل، لم تقف السلطانة كوسم ماه بيكر مكتوفة الأيدي بل رأت الخطر القادم، فقررت أن التحرك السريع ضرورة لوقف نفوذ خديجة تارخان المتصاعد، اختلت بنفسها وبحثت الأمر في جناحها الخاص في الحرملك، رأت أن أفضل حل هو القضاء على ركيزة نفوذ السلطانة الأم خديجة تارخان، ابنها السلطان الطفل محمد الرابع، لم تنس السلطانة كوسم أن السلطان هو حفيدها الأكبر، لكن شؤون الحكم تعميها عن تلك الأمور الجانبية، رأت أن قتل السلطان يعني زوال نفوذ والدته خديجة تارخان، دبرت كوسم الأمر بأن يقتل السلطان ذي العشر سنوات ويتولى أخوه الطفل سليمان السلطنة، كانت تفضله لأنه من أم أخرى، واقعة تحت نفوذ السلطانة كوسم ماه بيكر.

من سوء حظ السلطانة كوسم أن خطتها كشفت مبكراً، ودبرت السلطانة الأم خديجة تارخان مؤامرة مضادة بمساعدة رئيس آغوات الحرملك، وفي ليلة ظلماء من شهر سبتمبر 1651، دخل العبيد جناح نائبة السلطان كوسم ماه بيكر ونفذوا فيها حكم الإعدام خنقاً، لتلقى حتفها وهي في الـ62 من عمرها، ويضعون بذلك حداً للصراع الذي دار في الحرملك بين السلطان كوسم والسلطانة الأم خديجة تارخان واستمر مدة ثلاث سنوات، بذلك خلا الجو للسلطانة خديجة وتولت منصب نائبة السلطان إضافة إلى منصب السلطانة الأم.

كان خروج السلطانة كوسم ماه بيكر من المشهد السياسي حدثاً جللاً، فهي أشهر نساء التاريخ العثماني بأجمعه، مارست نفوذها بصورة غير مسبوقة أو متبوعة، ووصلت إلى قمة المجد والسلطة في الدولة العثمانية في مشهد استثنائي، وهي أكثر سيدة احتكرت منصب السلطانة الأم حتى وقتها خلال مدة سلطنة ابنيها مراد الرابع وإبراهيم لما يقارب الربع قرن، ونائبة السلطان لابنها مراد الرابع ثم حفيدها محمد الرابع لما يقارب 12 سنة، فتجمع بين يديها سلطات واسعة مكّنتها من أن تكون ضلعاً أساسياً في السياسة العثمانية في النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي، ويصفها المؤرخ التركي يلماز أوزتونا قائلا: «كانت ذكية إلى درجة استثنائية، ماكرة ومراوغة، أستاذة في صنع خطط سياسية ومؤامرات متعددة الوجوه، مؤثرة ومقنعة في كلامها، كانت تُعنى بإرضاء الشعب، لذا تركت خلفها مؤسسات خيرية كثيرة العدد إلى درجة لا يستوعبها العقل، ثروتها الضخمة جداً انتقلت إلى الخزينة العامة للدولة فأنعشتها».

صعود كوبريللي

عند وفاة السلطانة كوسم لم يكن محمد الرابع قد بلغ السن التي تمكنه من مباشرة سلطاته وتولي زمام الأمور، فتولت أمه خديجة تارخان نيابة السلطنة، وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، إلا أنها تميزت عن السلطانة كوسم ماه بيكر برجاحة العقل، ذات رأي وتدبير، وقدمت مصلحة الدولة العليا وابنها السلطان الطفل على مصلحتها الشخصية، لذلك بحثت في إصرار يليق بملكة بالبحث عن رجال دولة أكفاء يأخذون بيد الدولة المتعثرة، يعيدون الهيبة إلى اسم «العثمانية»، وكان محط آمالها أن تجد صدراً أعظم قادراً على تحمل أعباء الدولة ويعتمد عليه السلطان وأمه في جلائل الأعمال، وطوال خمس سنوات من التجربة، تولى خلالها الكثير من الشخصيات الضعيفة وغير الجديرة منصب الصدر الأعظم.

لم تجد السلطانة خديجة تارخان مفراً من حضور جلسات الديوان للبحث عن رجل مشهود له بالكفاءة لإدارة الدولة، ذهبت مع ابنها الصغير إلى الديوان وحضرت الاجتماعات المهمة وأدلت بدلوها في لحظات فاصلة من وراء ستار الديوان، هناك وقعت عيناها على ضالتها المنشودة في شخص الوزير من أصل ألباني، محمد باشا كوبريللي، قوي الشكيمة، ورجل دولة من الطراز الأول، استدعته نائبة السلطان بسرعة، بناء على توصية من مستشاريه السريين، فوضع الدولة كان مأساوياً يكفي أن تعلم أن الأسطول العثماني الأضخم في البحر المتوسط كان يتعرض للهزائم أمام أسطول مدينة البندقية.

عندما قابلت نائبة السلطان، السلطانة الأم خديجة تارخان، الوزير المسن، دهشت عندما رفض الوزير تولي الصدارة العظمى إلا بعد الاستجابة لشروطه الخاصة، كانت المرة الأولى في التاريخ العثماني التي يشترط فيها المرشح لتولي منصب الصدر الأعظم صلاحيات واسعة، شرح محمد باشا وضع الدولة المنهار، وهو ما لم تكن تجهله السلطانة خديجة، التي لم تجد إلا الموافقة على إطلاق يد كوبريللي في إدارة الدولة حرصاً على مصالح الدولة، ورغبة في أن يعود النظام والهدوء إلى مؤسسات الدولة المضطربة.

ما إن اطمأنت السلطانة خديجة تارخان على مصير الدولة حتى توارت في خلفية المشهد، أعلن وصول السلطان محمد إلى سن الرشد وتسلم إدارة البلاد فعلياً سنة 1656م، وبذلك انتهت فترة نيابة السطانة خديجة التي احتفظت فقط بمنصب السلطانة الأم، فضلت أن تكتفي بإدارة شؤون الحرملك وهي في التاسعة والعشرين من عمرها، لم تتدخل في أمور الدولة وشؤون السياسة مجدداً، انصرفت بكليتها إلى أعمال الخير، خلال 35 سنة قضتها في منصب السلطانة الأم، وهي أطول مدة لسيدة حملت هذا اللقب في التاريخ العثماني كله.

بانزواء السلطانة خديجة تارخان وابتعادها عن السياسة، انتهى ما عرف تاريخياً بـ»سلطنة الحريم»، في الدولة العثمانية، فقد تراجع «الحرملك» إلى دوره الطبيعي ولم تعد السلطانات تدس أنوفهن في شؤون الدولة والحكم إلا في أضيق الحدود، وبشكل استثنائي طوال القرنين الباقيين من عمر الدولة العثمانية، بعد أن لعبت نساء الحرملك أدواراً أساسية ومحركة للأحداث في عاصمة الدولة العثمانية على مدار قرن كامل، وكانت خديجة تارخان سيدة تحتاج الدولة العثمانية إليها بشدة، بما تمتلكه من ذكاء وحب الدولة، والتضحية من أجل ابنها، للقيام بالنقلة التي تحتاج إليها الدولة، من خلال تحجيم نفوذ الحرملك، خديجة تارخان كانت هي تلك المرأة التي نجحت في إعادة التوازن للدولة العثمانية، كانت وبحق نموذجاً افتقده الحرملك على مدار قرن تقريباً، عندما سلمت السلطة للصدر الأعظم القوي كوبريللي، لم تتدخل قط في السياسة، ظلت فقط حريصة على تلقين ابنها معاني التضحية والإخلاص في قيادة الدولة العثمانية حتى رحيلها في سنة 5 يوليو 1683م.

ورغم أعمال الخير والبر المنتشرة في مدن الدولة العثمانية المنسوبة للسلطانة خديجة تارخان، فإن العمل الأكثر أهمية والسبب في هالة الاحترام التي تحظى بها حتى الآن هي عملها من أجل رفعة الدولة العثمانية، بعدما فتحت الباب أمام آل كوبريللي لتقوم بدورها التاريخي الذي استمر سبعاً وعشرين سنة، استطاعت خلالها تلك الأسرة التي قدمت العديد من الوزراء الأقوياء، أن تعيد للدولة العثمانية هيبتها وعظمتها قريبة مما كانت عليه في عهدها النموذجي أيام سليمان القانوني.

 آل كوبريللي

تعد أسرة آل كوبريللي (1656- 1703) إحدى المحطات الأساسية في تاريخ الدولة العثمانية، وهي أسرة عرفت كيف تترك بصمتها منذ وصول عميد الأسرة محمد باشا كوبريللي إلى منصب الصدر الأعظم سنة 1656م، الذي نجح ومن بعده ابنه وخليفته أحمد باشا، في إعادة مجد الدولة العثمانية واستعادة هيبتها مرة أخرى في ساحات المعارك، وعاد سفراء أوروبا يطلبون الصفح من الباب العالي.

وترجع أسرة كوبريللي بأصولها إلى ألبانيا، وعندما تسلم محمد باشا كوبريللي إدارة السلطة كصدر أعظم مطلق الصلاحيات عمل على قمع الفساد الذي ضرب بجذوره في جهاز الدولة الإداري، كما عمل على تحجيم تطلعات قادة الإنكشارية ونزوع ولاة الأقاليم نحو الاستقلال، في حين تميز عهد ولده الصدر الأعظم أحمد باشا كوبريللي بانتصاراته الكبيرة في الساحة الأوروبية حتى أعاد الحدود العثمانية إلى ما كانت عليه قبل نصف قرن قرب عاصمة النمسا، فينيا. وإذا كانت أسرة كوبريللي عرفت بدورها في تاريخ الدولة العثمانية بتحقيق أمجاد تليدة، فإن أهل العلم والأدب في العالم الإسلامي لديهم احترام بالغ لآل كوبريللي لما قدموه في خدمة العلم، فمن المعروف أن أسرة كوبريللي اهتمت بجمع الكتب ورعاية العلم، وتخصص أحمد باشا كوبريللي في جمع الكتب الذي أنشأ مكتبة خاصة للكتب عدت الأضخم في عصرها، وعين لها أربعة حفاظ أمناء، واتبع فيها وسائل متقدمة في ترتيب الكتب وفهرستها.

وضمت مكتبة كوبريللي ذخائر الكتب في جميع العلوم الشرعية والعقلية، وهي بحق إحدى الخزائن الكبرى التي حفظت لنا ذخائر الأدب العربي الإسلامي في شتى مجالاته حتى يومنا هذا.