بدت تونس أخيراً كما لو أنها تتجه إلى الهاوية ذاتها التي ابتلعت مصر، فقد نزلت المعارضة العلمانية إلى الشارع لتطالب باستقالة الحكومة الإسلامية، كذلك عُلق المجلس الوطني التأسيسي المكلف وضع دستور، ونتيجة لذلك، شُلت الدولة، لكن كل الأحزاب المتنافسة عادت للتحاور، صحيح أن روح التسوية قد لا تدوم، إلا أنني أظن، بعد التحدث إلى أناس من كل الأطراف، أن أمام تونس فرصة جيدة لتتفادى الكارثة. لمَ؟لم يرق لمحاوري التونسيين تشبيه بلادهم بمصر، التي يعتبرونها غارقة في معمعة ضخمة من التطرف وغياب المنطق. رغم ذلك، يبدو المشهد السياسي في تونس خلال الأشهر الأخيرة مقسماً ومشلولاً تماماً كما في مصر. يرى قادة المعارضة أن الحكومة، التي يقودها "حزب النهضة" الإسلامي، غير كفؤة وغامضة. وأدى اغتيال اثنين من قادة المعارضة في وقت سابق من هذه السنة، على أيدي سلفيين على ما يبدو، إلى شعور عام بعدم الأمان والضياع. كذلك انهار الاقتصاد: فقد خفضت وكالة "ستاندرد آند بورز" أخيراً التصنيف الائتماني التونسي إلى معدلات متدنية جداً، متوقعة تواصل النمو البطيء وارتفاع البطالة. يذكر عبدالوهاب الهاني، قائد الحزب العلماني "المجد": "شُلت الحكومة. نحتاج إلى حكومة جديدة من الخبراء المحايدين". تنظر المعارضة العلمانية التونسية إلى الإسلاميين بعين الريبة المخربة عينها، التي تُقَيم من خلالها حكومة "الإخوان المسلمين" في مصر. صحيح أن "حزب النهضة" يحكم بالتحالف مع حزبين آخرين غير إسلاميين، لكن زياد ميلاد، وهو عضو سابق في أحد هذين الحزبين (حزب التكتل) يُعتبر اليوم من الشخصيات المعارضة البارزة، يذكر أن شركاء "حزب النهضة" العلمانيين ما هم إلا مجرد واجهة لاستيلاء الإسلاميين على الدولة. ومع أن الحكومة اتخذت، وإن متأخرة، خطوات لتحد من عنف المتطرفين، يصر ميلاد على أن "حزب النهضة والسلفيين هما وجهان لعملة واحدة". يقول إن للحكومة "جناحها المتطرف" السلفي الخاص و"جناحاً مسلحاً" يضم قوى أمنية ويتبع وزارة الداخلية، فضلاً عن المقاتلين المدنيين في ما يُطلق عليه اتحاد المجالس المحلية لحماية الثورة.في تونس كما في مصر، سممت الخطابات الرنانة المناخ السياسي، وتبرهن المطالبة بحل الحكومة والمجلس التأسيسي، فضلاً عن اللجوء إلى التظاهرات الحاشدة والتوقعات المتشائمة حيال نشر الفوضى لتحقيق هذا المطلب، أن المعارضة ليست أكثر استعداداً من الحكومة للوثوق بالعمليات الديمقراطية. أشار ميخائيل بشير العياري، ممثل مجموعة الأزمات الدولية في تونس، في مقال أخير له أن لكلا الطرفين "فصائله غير الديمقراطية" التي يجب تهميشها إن أرادت تونس تفادي "السيناريو المصري".ولكن بغض النظر عن المخاطر التي تواجهها تونس، من شبه المستحيل أن تشهد هذه الدولة انقلاباً عسكرياً (كما حدث في مصر) تليه حرب ترعاها الدولة ضد جماعة "الإخوان المسلمين"، ويعود ذلك إلى وجه الاختلاف الأبرز بين البلدين، في مسارهما السياسي على الأقل: تملك مصر جيشا مسيسا إلى حد كبير ويتدخل في شؤون الحكم، بخلاف تونس. يوضح عدنان حسناوي، ناشط مقرب من حزب النهضة الحاكم: "لا يرغب الجنرالات في تنفيذ انقلاب عسكري. والشرطة الوطنية الفريق الوحيد القادر على تنفيذ انقلاب مماثل، لكن بن علي (الحاكم المستبد السابق زين العابدين بن علي) صمم قانون هذه المؤسسة بطريقة تحول دون تمتع الشرطة بالسلطة الضرورية". ولا شك أن هبة بن علي غير المتعمدة لتونس كانت إبقاء الجيش ضعيفاً (تملك تونس 27 ألف جندي فحسب، وهم يفتقرون إلى العتاد)، وفرض ضوابط صارمة على الشرطة التابعة لوزارة الداخلية.لا يدفعنا جيش تونس الجمهوري إلى استبعاد احتمال تنفيذ انقلاب فحسب، بل يبدل أيضاً التفاعل السياسي بين القوى المتنافسة، ففي مصر، دعت المعارضة وحكومة الرئيس الإسلامي المخلوع أخيراً محمد مرسي كلتاهما الجيش إلى الوقوف إلى جانبهما ضد الطرف الآخر. فعين مرسي الفريق أول عبدالفتاح السيسي، الذي بدا له متعاطفا مع "الإخوان"، رئيسا للجيش على أمل استمالة الجيش. في المقابل، دعت المعارضة الجيش إلى الانضمام إليها في الإطاحة بحكومة مرسي، ولم يشعر أي من هذين الطرفين بضرورة التحاور مع الفريق الآخر للترويج لمصالحهما.لكن هذا الخيار غير وارد في تونس، مع أن المعارضة تؤكد أن "حزب النهضة" حول وزارة الداخلية إلى جناح تابع له. يذكر أمين غالي، مدير برامج في مركز الكواكبي للتحول إلى الديمقراطية في العاصمة تونس، أن "مَن يتحكم في وزارة الداخلية يتحكم في قلب الدولة". لكن غالي يضيف أن القوى الأمنية التونسية لا تشكل "دولة داخل الدولة"، كما هي حال الجيش المصري الضخم الذي يتمتع بامتيازات كبيرة؛ لذلك لا يمكن لهذه القوى أن تتحول إلى مصدر العون المنشود في الصراع السياسي. إذن، يواصل القادة التونسيون التحاور في ما بينهم لأنهم لا يملكون خيارا آخر.مع ارتفاع مؤشر الأزمة الوطنية على نحو حاد أخيرا، التقى راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة وأحد مؤسسيه، سرا في باريس الباجي قائد السبسي، قائد "حزب نداء تونس" العلماني وأحد أشد منتقدي "النهضة". وعندما عاد الغنوشي إلى العاصمة تونس، تشاور مع قائد الاتحاد الأكبر في تونس، الاتحاد العام التونسي للشغل. فوافقا كلاهما على إجراء "حوار وطني" يقوده الاتحاد، وأصر هذا الأخير على سلسلة من الشروط المسبقة تشمل حل الحكومة، ما عزز احتمال حل هذه الأزمة.صحيح أن تونس لم تبلغ بعد بر الأمان، ولكن في حديثه مع السبسي، عرض الغنوشي منح المعارضة أربع وزارات بهدف توسيع الحكومة، لا حلها. نتيجة لذلك، كان "حزب النهضة"، مع الاستعداد لنشر هذا المقال، يصر على إجراء الحوار قبل استقالة الحكومة، وهو شرط رفضته المعارضة. يذكر العربي شويخة، بروفسور متخصص في الصحافة والمدير السابق لأول لجنة انتخابية تونسية، أن "حزب النهضة" اتخذ، على ما يبدو، قراراً حاسماً، مصمما على قطع علاقته بالسلفيين ومحاولة "التقرب" من المجتمع المدني والقوى العلمانية. لكن محللين آخرين يشككون في هذه المسألة، ويعتبرون هذه الصفقة تكتيكا لتمرير الوقت لن يحقق أي هدف غير تعميق الأزمة.ستُضطر المعارضة بدورها إلى تقديم التنازلات، فكما أن استبدال الحكومة الحالية بلجنة من التكنوقراط صار مسألة غير قابلة للجدل بالنسبة إليها، كذلك تحول إبقاء المجلس الوطني التأسيسي، الذي يعمل على وضع الدستور منذ 18 شهرا، إلا أنه عُلق في 6 أغسطس، إلى قضية أساسية بالنسبة إلى الحكومة. يقول عامر العريض، رئيس المكتب السياسي لحزب النهضة (وأخو رئيس الوزراء علي العريض)، إن حل المجلس سيشكل "انقلابا على إرادة الشعب". يشكل المجلس التأسيسي هيئة منتخَبة يتمتع فيها الإسلاميون بالأكثرية، لكن هذه المسألة تحمل مجالاً للتسوية، في حال وافق "حزب النهضة" على تعيين لجنة من الخبراء الدستوريين تشمل مهامها اقتراح التغييرات التي يجب إدخالها إلى المسودة الراهنة.لا تُعتبر السياسة التونسية منقسمة بقدر السياسة المصرية، مع أن هذا لا يشكل بحد ذاته فارقاً كبيراً، فالإسلاميون في تونس ليسوا على القدر ذاته من التشدد كما في مصر، ويُعتبر محمد مرسي مسؤولاً ضيق الأفق، في حين أن راشد الغنوشي فيلسوف إسلامي بارز (وعضو سابق في لائحة Foreign Policy لأبرز 100 مفكر في العالم). بالإضافة إلى ذلك، قبل "حزب النهضة" منذ البداية على ألا يعتبر الدستورُ الجديد الشريعة أحد مصادر القانون التونسي، وحذَفَ المقاطع المسيئة لحقوق المرأة و"الكيان الصهيوني" بعد أن أثارت موجة من التنديد. نتيجة لذلك، يكون احتمال المصالحة في تونس أكبر مما يبدو ممكناً في مصر.لكن ما يبدو جليا أيضاً أن فشل الشجاعة والبصيرة السياسيتين في تونس لن تكونا مميتتين كما في مصر، فلا يمكنك الرجوع عن انقلاب عسكري أو قتل أكثر من ألف شخص أو حرق الكنائس أو كل هذا الكره المتبادل بين الطرفين. فعندما تستعمل القوى، التي يُفترض أنها ديمقراطية، الجيش كأداة في الصراع السياسي، تسلط هذا السيف على رقبتها، وهكذا غرق العلمانيون المصريون في وهم أنهم استمالوا الجيش إلى جانبهم، إلا أن هذا الأخير أعاد في الواقع وضع يده على الدولة، نتيجة لذلك، تخوض مصر حرباً، في حين أن تونس تكتفي بحرب كلام.
مقالات - Oped
تونس والأمل الأخير... بقعة لم يفشل فيها الربيع العربي فشلاً ذريعاً
28-08-2013