في منتصف شهر أغسطس، توجه ناشط سوري تربطه علاقات وثيقة مع كبار المسؤولين نحو مدينة غازي عنتاب الحدودية في جنوب تركيا لمقابلة ضابطَين من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. كان الضابطان يستعدان للاجتماع في قاعة المؤتمرات في فندق فخم حيث تجمّع ممثلون عن جماعات معارِضة قليلة في الردهة بانتظار دورهم للتكلم أمام الحضور.

حضر ذلك الناشط، الذي كان صحافياً قبل بدء الصراع، مع ثلاثة زملاء له من حلب، عاصمة سورية التجارية التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى ساحة الحرب الأساسية. داخل القاعة، تواجد أميركيان كانا يرتديان ملابس غير رسمية وكانا يفتحان الخرائط التي حصلا عليها من اللقاء السابق. عرّف الأميركيان عن نفسيهما بصفتهما ضابطين في وكالة الاستخبارات المركزية وأعلنا أنهما حضرا للمساعدة على إسقاط الرئيس السوري الاستبدادي بشار الأسد.

Ad

رفض الناشط الإفصاح عن اسمه في هذه المقالة لأنه لم يشأ أن يرتبط اسمه علناً بالاستخبارات الأميركية. إنه شخص محترم في حلب وقد قابلتُه للمرة الأولى في فندق آخر في جنوب تركيا، خلال ندوة تدريبية للناشطين من تمويل وزارة الخارجية الأميركية، وقد كان أحد المتحدثين الأساسيين فيها. بحسب قوله، استجوب الضابطان الجماعة الحاضرة عن تسلل النزعة الإسلامية إلى صفوف الثوار. هل كان ثوار حلب يدعمون الديمقراطية؟ هل هم معادون للغرب؟ ماذا عن «القاعدة»؟ ثم تساءل الضابطان عن الطريقة التي يمكن أن يقدما فيها المساعدة. أراد الناشطون الحصول على الدعم المسلح للثوار في حلب (لا سيما الصواريخ أرض-جو)، لكن أوضح الضابطان أن الولايات المتحدة تشعر بالقلق من أن تصل تلك الأسلحة إلى يد المتطرفين. لذا قال أحد الضابطين: «لندع المسائل العسكرية جانباً». فتحدثت الجماعة الحاضرة عن لائحة أمور تحتاج إليها مثل الهواتف الفضائية والإمدادات الطبية، وتعهد الضابطان بإعادة التواصل معها قريباً. كرر أحد الضابطين: «نحن هنا لمساعدتكم على إسقاط الأسد».

لكن خلال الأشهر اللاحقة، بدأ ذلك الناشط وعدد من كبار الشخصيات المشاركة في الثورة يشتبهون بأن الولايات المتحدة لا تنوي الالتزام بوعودها، ويعتبر البعض أن الاجتماعات كتلك التي حصلت في غازي عنتاب مجرد تدريب عدائي لجمع المعلومات الاستخبارية.

في وقت الاجتماع، كانت الحرب ضد الأسد قد احتدمت. كان السؤال الأبرز يتعلق بمدى استعداد المجتمع الدولي للتدخل لأجل مساعدة الثوار عبر تقديم الأسلحة أو فرض حظر جوي. في ظل غياب أي تدخل، كانت السياسة الأميركية الرسمية تقضي بتوفير الدعم غير العسكري حصراً، ولا تزال تلك السياسة على حالها. لكن في غازي عنتاب، أكدت المصادر أن ضابطَي وكالة الاستخبارات المركزية طرحا أفكاراً مغايرة.

تحدثتُ مع ثلاثة رجال كانوا حاضرين هناك حين اجتمعت كتيبة «لواء الفتح» مع وكالة الاستخبارات المركزية في أغسطس، قبل أن يصل الناشطون من حلب إلى القاعة. وافق اثنان من أعضاء الكتيبة (هيثم درويش، عقيد سوري منشق كان يقود الكتيبة حينها، وناشط مدني اسمه علي بدران) على السماح لي بالإفصاح عن اسميهما. قال الرجلان إن الضابطين اقترحا خطة تتألف من خطوتين. أولاً، سيتم تزويد «لواء الفتح» بمعدات الاتصالات. وإذا تبين أن الثوار يستحقون الثقة، يمكن إرسال الأسلحة إليهم في المرحلة الثانية. لم يذكر الضابطان الجهة التي ستوفر الأسلحة، لكن من المعروف أن المملكة العربية السعودية وقطر (دولتان حليفتان للولايات المتحدة) كانتا تنقلان الدعم إلى جماعات الثوار. أخبرني أحد الحاضرين في الاجتماع: «قال لنا الضابطان: «لا نستطيع وعدكم الآن. لكن في المستقبل، ستتوافر لكم الأسلحة». هذا وعد بحد ذاته». أضاف الثوار أن الضابطين قالا إن معدات الاتصالات ستصل خلال أسابيع.

أجندة ملتوية

تولى فراس طلاس، رجل أعمال سوري كان يرتبط بعلاقات وثيقة مع الأسد سابقاً، تنظيم الاجتماعات في غازي عنتاب. كان والده مصطفى وزير الدفاع الذي يخشاه الجميع طوال ثلاثة عقود بينما كان شقيقه الأكبر مناف صديقاً مقرباً ومساعداً بارزاً للأسد قبل انشقاقه الذي ترافق مع تغطية إعلامية واسعة في يوليو. أبلى طلاس حسناً تحت حكم الأسد ولكنه غيّر ولاءه أيضاً وتعهد بإنفاق أمواله للمساعدة على تمويل الثورة. خلال مقابلة هاتفية في يناير، أخبرني بأنه حضر الاجتماعات مع الناشطين من حلب ومع الثوار من «لواء الفتح»، وأكد على معلوماتهم. أوضح أنه نظم عدداً من الاجتماعات المماثلة مع وكالة الاستخبارات المركزية وأن الوعود التي أطلقها الضابطان في غازي عنتاب كانت مألوفة، بما في ذلك الوعد غير المباشر بتوفير الأسلحة.

أخبرني طلاس بأن الأميركيين لم يلتزموا بأيٍّ من وعودهم وأنهم لم يحصلوا حتى على معدات الاتصالات أو الإمدادات الطبية، ثم اتهم الولايات المتحدة بتنفيذ أجندة ملتوية في سورية، بمعنى أنها تعمل على ضمان استمرار الحرب بدل المساعدة على إسقاط الأسد. وأضاف: «تحاول الولايات المتحدة إطالة مدة الثورة السورية».

في يونيو، سرّب مسؤولون أميركيون معلومات إلى صحيفة «نيويورك تايمز» مفادها أن ضباط وكالة الاستخبارات المركزية ذهبوا إلى جنوب تركيا لاختبار جماعات الثوار لأجل تحديد الجهات المناسبة التي قد تتلقى الدعم من حلفاء الولايات المتحدة. لكن كانت شكوك طلاس تعكس شكوك عدد من كبار الثوار وأعضاء المعارضة الذين تحدثتُ معهم. فقد أصبح هؤلاء مقتنعين بأن الولايات المتحدة، بدل أن تساعدهم على تلقي الدعم، تسعى في الحقيقة إلى إعاقة وصول المساعدات إليهم.

قال معارض نافذ، له علاقات وثيقة مع أبرز الثوار وكان مرتبطاً بالنظام السوري مثل طلاس، إنه قطع علاقاته حديثاً مع المسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية. صحيح أنه لا يزال يعتبر بعض الضباط أصدقاء له، لكنه اشتكى من أنه بدأ يفقد مصداقيته بين الثوار بسبب عدم الوفاء بالوعود التي يتم إطلاقها خلال الاجتماعات التي ينظمها: «يختلق الأميركيون الأكاذيب للحصول على المعلومات. إذا سألنا الثوار في سورية الآن، سيقولون جميعاً إن الولايات المتحدة هي عدوتنا». أوضح لاحقاً أن الضابطين طلبا منه أيضاً إعداد لائحة باسم الضباط الثوار الذين يمكن تدريبهم على استعمال الصواريخ أرض-جو، لكن لم يحصل شيء بعد ذلك. (تكررت هذه المعلومات على لسان قائد بارز للثوار، فأخبرني هذا الأخير بأنه قدّم لائحة مماثلة في الفترة الأخيرة إلى معارفه في وكالة الاستخبارات المركزية بطلبٍ منهم. كان أيضاً ينتظر ما سيحصل ولكنه كان أكثر تفاؤلاً واعتبر أنه رصد جدية جديدة في الوعود الأميركية بتقديم المساعدة: «إنها الفرصة الأخيرة بالنسبة إلى الولايات المتحدة»).

غياب الدعم

تشارك أعداد كبيرة من جماعات الثوار في القتال داخل سورية، وربما التزم ضباط وكالة الاستخبارات المركزية بوعودهم تجاه إحدى تلك الجماعات. لكني قابلتُ عدداً من أبرز أعضاء المعارضة وقادة الثوار الموجودين في تركيا والأردن (ينشطون انطلاقاً من شمال وجنوب سورية)، وقد تذمر الجميع من عدم الالتزام بالوعود أو غياب الدعم الأميركي عموماً.

يقول بعض المحللين الذين كانوا يتواصلون عن قرب مع المعارضة السورية إن العداء تجاه الولايات المتحدة تزايد في الفترة الأخيرة. أخبرني سلمان شيخ، مدير مركز الدوحة التابع لمعهد بروكينغز، بأن عدداً كبيراً من الثوار وقادة المعارضة فقدوا ثقتهم بمعارفهم الأميركيين، وقال: «أخشى أنّ البعض ما عاد يريد تضييع الوقت مع الاستخبارات الأميركية. كثرت الوعود التي لم تتحقق وبلغت مشاعر الغضب وانعدام الثقة أعلى المستويات، ولست متأكداً من إمكان إصلاح الوضع». ثم أوضح أنه يشتبه بأن بعض أوساط الحكومة الأميركية يعتبر أن السياسة السورية ستصبح أكثر عدائية في نهاية المطاف. لكنه أضاف قائلاً: «أظن أن المسؤولين في أعلى المراتب مترددون جداً». ربما توقع ضباط وكالة الاستخبارات المركزية الموجودون ميدانياً في تركيا الحصول على الضوء الأخضر الذي لم يأتِ مطلقاً.

تبدو حركة نقل الأسلحة في جنوب تركيا مبهمة. يجمع مناصرو المعارضة الأموال والأسلحة من الحكومات والأفراد المتعاطفين مع الثوار، ثم يرسلونها عبر الحدود المنفلتة. حين يتلقى الثوار الأسلحة، غالباً ما يفترضون أن الشحنات وصلت بموافقة الولايات المتحدة بما أنها تصل على ما يبدو بإذن من تركيا المتحالفة مع الأميركيين. (حين سألتُ مسؤولاً في وزارة الخارجية التركية عن تلك الشحنات في الصيف الماضي، أجاب: «إذا كانت الأسلحة تأتي من تركيا، لا يعني ذلك بالضرورة أن تركيا هي التي توفرها»). لكن حتى الثوار الذين يتلقون الأسلحة لا يزالون يشككون بالنوايا الأميركية.

«زازا»

في الفترة الأخيرة، تواجدتُ في إحدى الأمسيات في مدينة أنطاكيا في جنوب تركيا وجلستُ في متجر صغير لبيع الهواتف الخلوية يملكه رجل محلي اسمه مالك داليان. كان المتجر يعج كالعادة بالثوار والناشطين السوريين الذين يأتون لشحن الهواتف. تحدث مترجمي مع أحد العملاء الدائمين، فدعانا الأخير إلى مرافقته إلى الحدود لتسلّم الأسلحة في تلك الليلة. وافقنا وانتظرنا وصول المهرّب الأساسي في منزل ذلك الرجل.

في حوالى الساعة العاشرة مساءً دخل إلى المنزل عبد الرحمن الحلاق، رجل شعره رمادي وطويل ولحيته أيضاً، كان يرتدي بذلة رمادية مجعدة. يناديه الثوار باسم «زازا»، وهو أحد أقوى المهربين في المنطقة. سرعان ما اتضح أن تهريب الأسلحة خلال الليل له هالة من الشرعية، لذا سألتُ «زازا» إذا كان يوافق على مرافقتنا له، فأجاب: «حتى لو كنت شقيقي، سأقتلك إذا رأيتك هناك».

أكد «زازا» أن معظم الشحنات يتألف من أسلحة رشاشة وأن الأسلحة الثقيلة والصواريخ أرض-جو لم تصل مطلقاً. قال أيضاً إن تلك الأسلحة تصل بأعداد محدودة، لكنها تكفي بحسب تقديراته لمنع ميل الكفة لصالح أيٍّ من الفريقين: «يعطوننا 10 رصاصات كي نضطر إلى العودة طلباً للمزيد حين تنفذ الذخائر. إذا أعطونا 20 رصاصة، يمكن أن نتقدم ولكنهم لا يريدون ذلك. هدفهم الحفاظ على توازن قوة النظام».

مثل كثير من الشحنات، قال «زازا» إن الشحنة المقبلة تترافق مع تعليمات حول طريقة توزيعها داخل سورية. لا يعلم الجهة التي أرسلت له الشحنات ولكنه يظن أن الاستخبارات التركية متورطة في الأمر. بالتالي، ينطبق الأمر نفسه على وكالة الاستخبارات المركزية. قال ذلك بنبرة ساخرة مضيفاً: «لا تستطيع تركيا ولا الولايات المتحدة التحكم بوجهة الأسلحة لأن الثوار يوزعونها كما يشاؤون».