نافذة الشاعر

Ad

يفتحها للنور والريح وعطر الأرض

يهجم بها صخب العالم

يغلقها كأنما لآخر الزمان

ومثلما يغلق تابوت إلى الأبد.

كأنما أراد محمود البريكان أن نقرأ هذه القصيدة بعنوانها اللافت هذا، بعد رحيله الفاجع، إذ في 28 فبراير من عام 2002، مات الشاعر مقتولا، محمود بريكان اسم هو عراب الصمت والعزلة، هذا الشاعر الذي أبقى روحه الشعرية متأججة حتى النهاية الدراماتيكية لموته، لقد شكل امتناعه المتعمد والصارم عن نشر قصائده مفارقة حقيقية في خريطة الشعر العربي المعاصر وبقى انجازه الشعري في الظل، بعيداً عن الذاكرة الشعرية العربية، كأن البريكان كان يرغب أن يختفي عن ضجيج العالم نهائياً وإلى الأبد، هو الذي لم يغادر البصرة إلا سنوات قليلة للتدريس في الكويت بين الأعوام 1953-1959. وطوال سنوات عديدة كنت أحاول تتبع نصوصه القليلة الموزعة هنا وهناك، إلى أن أنجز الشاعر عبدالرحمن طهمازي دراسة ومختارات عن البريكان صدرت عن دار الآداب في 1982. ظل اسم البريكان مرتبطاً في ذهني على الدوام بذلك الثالوث البصراوي، بدر شاكر السياب، محمود البريكان، سعدي يوسف، وما زلت اتذكر أول لقاء لي مع سعدي حينما سألته من بين آخرين عن البريكان فراح يحدثني عنه بحب وشغف حقيقي وبعد سنوات من ذلك سوف يكتب سعدي يوسف عما تعلمه من البريكان. «تعلمت من محمود البريكان، وهذا ما تعلمته من بدر أيضاً... الحرص على صفاء اللغة مع الانتباه إلى قدرتها على أن تتداول بين الناس، أحياناً تبدو لغة البريكان صافية حد التجريد، أقول «تبدو» لأن النظرة التالية سوف تعلمنا كم هي ملموسة ومحسوسة لغتة» أجل لقد قتل هذا الصامت الكبير في داره بمجانية مذهلة، هذا الشاعر الذي كان يطمح إلى استشراف المصائر الكبرى للإنسان وكان يحلم بأن يكون جوهر الشعر، فعلاً عظيماً من أفعال الحرية ومغامرةً في مستوى النزوع الأعمق للإنسان.

لكن ما يفرح حقاً أنه ما من قصيدةٍ عظيمةٍ تصل متأخرة أبداً، كما كتب الشاعر والصديق باسم المرعبي، الذي أنجز وأصدر الطبعة الأولى كتاب شعري يحمل اسم محمود البريكان، بعنوان متاهة الفراشة، سبعون قصيدة، 1958-1998، بعد أن جمع النصوص وبوبها وقدم لها وأصدرها عن دار نيبور للنشر في استوكهولم، «يبدو لي أن الشعر فن لا يقبل التسخير» عبارة لم يقلها البريكان فحسب بل سرت في أعماقه وفي مجرى حياته ومواقفه، حتى النهاية. وفي حديثٍ وحيدٍ ربما ونادر أيضاً أجراه معه الشاعر حسين عبداللطيف في العام 1969 ونشر في مجلة المثقف العربي، المح البريكان إلى طموحه ونزوعه المبكر إلى الغايرة وإلى استشفاف ما يجري في الكتابة ومن ثم إلى نحت لغة مبنية باحكام فيها من الدقة والشفافية بحيث يطبق على عالم موضوعاته الشعرية بتماسك تام، لأن الشعر كما يقول: «لا يحيا مع الحذلقة وليس وسيلة لتحقيق أي غرض مباشر ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجة ومن ثم فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي وقلما يعكس رغبات الشاعر اليومية، لأن منطقته هي منطقة الذات العميقة».