نحتاج في حياتنا في بعض الأحيان إلى وهْم يساعدنا على تجاوز لحظات الإحباط والانكسار والهزيمة، نخلق أحياناً عالماً مختلفاً قد يستند في الواقع إلى بعض العناصر، لكنه بالتأكيد ليس كل الحقيقة ونكون محظوظين كلما اقترب من الحقيقة، هذا الوهم الذي نصنعه، وهذا العالم الذي نظنه حقيقياً هو إدمان وقتي نحاول به ألا نواجه لحظة الحقيقة أو لحظة الإفاقة، لأننا عندئذ نكتشف كم ضيعنا من عمر ونحن نعيش الوهم، الكارثة الكبرى عندما نكتشف أنه لم يكن فقط مجرد وهم بل كان سلاحاً مصوَّباً إلى صدورنا وكنا نظنه سلاحنا، ظنناه حامياً فإذا بنا نكتشف أننا أسرى، وأن السلاح كان لمنعنا من الخروج من الأسر لا لحمايتنا.

Ad

قد يبدو ما سبق كأنه محاولة تفلسف في غير موضعها، ولكن الحقيقة أنه تعبير عن صدمة كنت مدركاً لها من فترة، ولكنني حاولت دوماً تكذيب الواقع وفضلت التوحد مع الواهمين. الواهمون هنا هم كل أولئك الذين اعتقدوا أن حركة "حماس" هي المقاومة الباقية في وجه إسرائيل، لكننا لم نسأل أنفسنا أبداً كيف واجهت وكيف قاومت وهي التي بدأت بمباركة إسرائيلية في وقت مبكر من إطلاقها؟! لم نسأل أنفسنا كيف واجهت إسرائيل وهي التي لم تشتبك مع الجيش الإسرائيلي اللهم إلا ببعض الصواريخ التي تحدث ضجيجاً صوتياً أكثر منه تأثيراً على الأرض أو تحقيق هدف استراتيجي، والأكثر من ذلك أن من يطلق هذه الصواريخ جماعات جهادية أخرى تختلف مع "حماس" أحياناً وتستخدمها "حماس" أحياناً أخرى، لكن الثابت مؤخراً أن وظيفة "حماس" في غزة هي مراقبة تلك الجماعات ومنعها من إطلاق أية صواريخ باتجاه إسرائيل لأن الثمن يكون غالياً، وعادة ما يدفعه المواطن الفلسطيني المغلوب على أمره، والذي عاش يوماً وهْم "حماس" المقاومة ليصحو على حقيقة "حماس" الجماعة الهادفة لتكوين الإمارة، وليذهب الفلسطينيون الآخرون إلى الجحيم. 

أعلم أن البعض سينبري لتكذيب ما أقول والتدليل على أن "حماس" انتصرت على العدو الإسرائيلي أكثر من مرة، وهنا أطلب ممن يعتقد هذا الاعتقاد أن يعود بذاكرته إلى ما يعتبره انتصارات حمساوية على إسرائيل، ليكتشف ما الثمن الذي دفعه الفلسطينيون من أرواح ودماء، وما حجم الخسارة التي مني بها الجيش الإسرائيلي، أظن أن زيارة سريعة عبر محرك البحث "غوغل" الآن ستنعش الذاكرة وسنكتشف أن هذه الانتصارات المدّعاة لم تكن إلا انتصارات كلامية وخطابية، وكنا متعاطفين معها ونصدقها لأننا كنا نبحث عن انتصار حتى لو كان وهماً، لذلك ذكرت في البداية أننا أحياناً نختار أن نبحث عن وهم، لن أعيشه وأصدقه، ليساعدنا على تجاوز الواقع المؤلم الذي نعيشه. 

يخرج البعض ليقول إن "حماس" تحولت إلى قاعدة مقاومة عسكرية ضدّ الكيان الصهيوني، وقد ثبتت هذه الحقيقة التي تأكدّت من خلال انتصارها في صدّ حربيْن عدوانيتين كبيرتين عامي 2008/2009 و2012، كما تأكّدت من خلال صمودها في وجه حصار عسكري وسياسي واقتصادي دام إلى الآن وعلى مدى أكثر من ست سنوات، وإن هذا الوضع يكرس لما تعنيه من أهمية استراتيجية عسكرياً وسياسياً، عظيمة الأبعاد، بالنسبة إلى القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والأمّتين العربية والإسلامية (مع إشارة خاصة إلى أهميتها الاستراتيجية العسكرية بالنسبة إلى الأمن القومي المصري)، وهنا أسأل: أي أمن قومي مصري يتحدثون عنه وهم الذين يستعرضون قواتهم في عرض عسكري رافعين شعار "الإخوان المسلمين" وعلامة رابعة كأنهم يتوعدون؟ لقد وفرت علينا "حماس" جهد إثبات أولويات الولاء لديها، وكشفت عن نفسها كجناح عسكري لتنظيم دولي ليس هدفه بالتأكيد الفلسطينيين، ولكن أهدافه هي أهداف التنظيم، التي تتخطى حدود الوطن والمواطنين، أما الإشارة إلى أن "حماس" تشكل قاعدة المقاومة العسكرية فإن هذا بات في حاجة إلى إعادة نظر.

أعلم أن ما أقوله سيتسبب في عاصفة في وجهي أنا في الغالب، ولكن هكذا علاج الإدمان، المواجهة لحقيقة الأشياء وكشف الغطاء عن الوهم الكبير الذي أدمنّاه، وعلى الآلاف التي تشكل "حماس" أن يعيدوا حساباتهم مرة أخرى، وأن يخرجوا هم أيضاً من الوهم الذي أغرقهم قادتهم فيه، وقد تكون أولى خطوات العلاج أن ينظروا كيف يعيش قادتهم وماذا هم فاعلون.

أظن أنه آن الأوان أن نتوقف عما يسمى المصالحة الفلسطينية بين "فتح" و"حماس" وأن تبدأ الحركة في اتجاه مصالحة فلسطينية بمفهوم استعادة الفلسطينيين لمصيرهم المخطوف في غزة.