في حادثة يرويها ديكسون في كتابه "الكويت وجاراتها" يقول إن حركة الإخوان التي كان يقودها فيصل بن دويش وآخرون قد احتجوا على الملك عبدالعزيز لأنه يقيم المعاهدات مع الكفار، أي مع البريطانيين، ويمنعهم من محاربة الكويت والعراق، وأنه يستخدم آلات صنعها الكفار كالسيارة والبرق، وقد حاول الملك عبدالعزيز أن يقنعهم بأن هذه الآلات لا علاقة لها بالكفر والإيمان وأنها وسائل تقنية وجدت لتسهيل الاتصال بين الناس، فضلاً عن توفير الوقت والجهد، لكنهم أصروا على موقفهم، فلم يجد الملك عبدالعزيز سوى اللجوء إلى الحيلة والجدل بمنطق آخر، فقال لهم: حسناً سأتخلى عما أنتجه الكفار في حوزتي من سيارة وبرق بشرط أن تتخلوا أنتم أيضاً عن سلاحكم من بنادق وخناجر فهي أيضاً من صنع الكفار، فرفضوا وحاربوه وانتصر عليهم.

Ad

  هذا النوع من المعارضة التي تتخذ من الدين حجة لم تتوقف حتى اليوم، ومن عجائب الزمان أن يستمر عنوانها هو نفسه، وهو حماية الدين من التغريب، وقد كان آخر موضة لجماعات التشدد الديني في السعودية اتهام مهرجان التراث والثقافة، الذي ترعاه رئاسة الحرس الوطني، بأنه مرتع للتغريب، على اعتبار أن تقديم الأطعمة الشعبية من حنيني وجريش وقرصان، وعرض الصناعات التقليدية والحرف اليدوية من مشروع التغريب، في حين أن المحرك الأساسي لهذه المعارضة المستترة هو سماح هذه الفعاليات بتخصيص يوم للعائلات للدخول معاً فعد ذلك اختلاطاً محرماً!

 اليوم كل حرب على التنمية صار شعارها "محاربة التغريب"، وإن كان تعليم البنات منذ نصف قرن تغريباً فقد صار اليوم ابتعاث الطلبة للخارج تغريباً، وكذلك كان تعليم اللغة الإنكليزية والجغرافيا والقول بدوران الأرض، أما اليوم فقد أصبح معرض الكتاب وبيع كتب الفرنجة والملحدين تغريباً، وإن كان خروج المرأة من بيتها لمدرستها تغريباً فقد صار بيعها في محلات المستلزمات النسائية أشد أنواع التغريب.

 هذا المنطق الذي لا تجد العامة فيه غضاضة ولا تفتش في ثناياه عما يجعله غير قابل للتصديق يتزايد كل يوم، وقد أعلن محاربو التغريب الحرب على دعاة التغريب بحجة غريبة، وهي أنهم صادقون وكاذبون في الوقت نفسه، وقد شرح أحد المشايخ هذا بقوله: "إن الليبراليين يستخدمون كلام الله والرسول صلى الله عليه وسلم ويتخذون من الخلاف الفقهي حجة علينا كي يحرجونا، لكنهم في الحقيقة غير صادقين في قولهم، فهم يشتركون معنا في 10 في المئة فقط، والباقي يختلفون معنا فيه"، ورغم أن الشيخ يعترف بأن آراء الليبراليين قد أفادت الناس وحلت بعض المشكلات التي كان البعض يصرّ عليها بسبب تعنته وتشدده، فإنه يحذرهم قائلاً: "لا تصدقوهم وانتبهوا أن يخدعوكم".

 يبدو أننا بحاجة إلى جهاز كشف الكذب حتى يجلس عليه مثقفونا المتهمون بتهمة الليبرالية كي يكشفوا عن صدق أقوالهم، وكي نطرح عليهم سؤالاً حول ما إذا كان مهرجان التراث والثقافة مهرجاناً تغريبياً أم مهرجاناً لعرض الحرف الشعبية والتراثية، وإ‍ن كان برنامج الابتعاث برنامجاً للدراسة وتحصيل العلم أم هو مشروع تغريبي الغرض منه إفساد الشباب، وعليهم أن يثبتوا ان كانت دعوتهم لقبول التعددية المذهبية والطائفية مشروعاً تغريبياً أم الغرض منها الحفاظ ع‍لى حقوق المواطن ووحدة النسيج الوطني والتسامح الإسلامي.  

لقد صارت محاربة التغريب والتخويف من المغربين إخوان الشياطين مرتعاً خصباً لكل التناقضات، لكنها تفلح في نفخ الأوهام وتفشيها بين الناس، وقد تصبح وصية كل أ‍ب لابنه "لا يغربوك الرجاجيل" بدلاً من "لا يغلبوك".