هل من مثال أبرز للجنون المطبق من سياسة الولايات المتحدة البالية تجاه كوبا؟ خلال أكثر من خمسين سنة من الأعمال السرية، والتخريب الاقتصادي، وحظر السفر، والحصار المتواصل، نجحت الولايات المتحدة في تحويل كاسترو وكوبا إلى رمز دولي للاستقلال والفخر.

صحيح أن واشطن أرادت عزل كوبا، بيد أنها تمكنت من عزل نفسها في عالمها الخاص، وصحيح أنها أرادت القضاء على فيدل كاسترو، إلا أن العداوة الأميركية زادت من مصداقيته الوطنية.

Ad

لاحظتُ خلال زيارتي الأخيرة إلى كوبا أنها بدأت فعلاً مرحلة جديدة ما بعد كاسترو، ويشدد هذا الواقع على مدى سخف مواصلة الحصار الأميركي، الذي يُعتبر من البقايا البشعة لحرب باردة انتهت منذ زمن.

تسعى كوبا راهنًا، بحكم الحاجة، إلى بناء نسختها الخاصة من اشتراكية السوق في بلد واحد، فكما أن الحركات الشعبوية في تلك البقعة من العالم تنظر إلى كوبا وكاسترو كمصدر للإلهام، كذلك بدأت كوبا تتعلم اليوم من حلفائها، فيما تسعى بحذر إلى فتح اقتصادها.

 فقد تحدث وزير اقتصاد سابق عن التزام كوبا بتعزيز الشركات والأعمال الخاصة، وأضاف أنها تعمل راهنًا على مساعدة المزيد من الشركات العامة على الانطلاق بمفردها.

من المقرر خلال الشهر الراهن أن تتحوّل مئة شركة إنتاجية تديرها الدولة و20 مؤسسة أخرى إلى شركات خاصة، وتؤكد الحكومة أن الكثير من الشركات الأخرى ستأخذ هذه الخطوة قريباً، بدءاً من عام 2014، وذلك كبديل للشركات الحكومية الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تعمل في مجالات البيع بالمفرق، والخدمات الغذائية، والنقل، والتصنيع الخفيف، والبناء، وغيرها.

رغم الحصار، يعكس مطار خوسيه مارتي هذا الانتعاش، فيأتي مئات الأميركيين المتحدرين من أصل كوبي إلى البلد لزيارة أقاربهم، حاملين معهم شتى الأمور من أجهزة التلفزيون بشاشاتها المسطحة إلى السلع الاستهلاكية، ومنذ رفع الرئيس أوباما الحظر على الزيارات العائلية عام 2009، تؤدي المساعدات المالية والمادية التي يحملها معهم الأميركيون من أصل كوبي دوراً متنامياً في الاقتصاد الجزئي في هذه الجزيرة.

في تسعينيات القرن الماضي، ما كانت هافانا تسمح بإقامة شركات خاصة محدودة إلا كتدبير طارئ، لكن المسؤولين الحكوميين اليوم يتحدثون علانية عن جعل نحو 50% من الناتج الوطني الإجمالي في كوبا بين أيدي القطاع الخاص في غضون خمس سنوات. لا شك أن توسّع قطاع الأعمال الصغير لن يحلّ المشاكل الأساسية التي تواجهها هذه الجزيرة: مثل الحصول على قروض ائتمانية كبيرة واستثمارات وافرة، فضلاً عن تعزيز الصادرات ومعالجة ضعف الإنتاجية، هذا إن لم نذكر حاجات المسنين الذين يزادون عدداً.

في هافانا، ينشغل الناس بالحديث عن استثمار البرازيل في تجديد ميناء ميرل، لا عن إدوارد سنودن، فقد واجهت الشركة البرازيلية الكبرى Odebrecht تهديدات من حكومة ولاية فلوريدا بتعليق أي عقود معها في حال استثمرت في كوبا. صُمم هذا المرفأ بمياهه العميقة لتسهيل التبادل التجاري مع الولايات المتحدة وغيرها في مرحلة ما بعد الحصار، في حال انتهى يوماً.

لكن وسائل الإعلام الكوبية ما زالت على حالها، مع أننا نشهد في وسائل التواصل على شبكة الإنترنت مناظرات حامية، إلا أن الحكومة تعي، على ما يبدو، أن انفجار وسائل الإعلام الاشتراكية سيبدّل طرق التواصل والسياسات، وتدرك أنه ما من خيار أمامها غير التغيير، إذا أرادت التقرب من جيل الشاب.