لعل أكثر ما لفتني من تعليقات بشأن غرق قارب للمهاجرين قبالة سواحل «لامبيدوزا» الإيطالية، ووفاة أكثر من 300 شخص، قول أحدهم: «إن على أوروبا أن توقف تدفق أموال الحكام والمسؤولين الفاسدين على بنوكها هناك، وهي تُقدر بالمليارات، بدلا من إيقاف تدفق هؤلاء المهاجرين الفقراء (بأجسادهم) عبر البحر المتوسط».

Ad

معادلة قد تبدو مختلة إذا نظرنا إلى ميزان التعامل مع هؤلاء اللاجئين الأفارقة والعرب البسطاء، مقارنة بتلك الأموال التي تتدفق إلى البنوك الأوروبية، وغالبية تلك الأموال محجوزة بسبب رحيل الحكام، أو اعتقالهم بعد موجة الربيع العربي، التي زادت بدورها من مأساة هؤلاء المهاجرين، بعد تزايد أعدادهم، في منطقة لا تعرف قانونا، أو نظما سياسية مستقرة، فالحدود الليبية قبالة البحر المتوسط «منفلتة»، وكذلك الشأن بالنسبة إلى تونس، والمغرب والجزائر التي يجد فيها مهربو البشر، طرقا آمنة لجني الأموال، والثراء على حساب أرواح هؤلاء الشبان الأبرياء، من شرق افريقيا، وغربها.

حكايات وقصص كثيرة تروى، ويندر أن تجلس إلى شبان من دول الشرق الأوسط، أو افريقيا، ولا تجد بينهم من يرغب بالهجرة أو خوض التجربة، أو تسمع أقارب لهم خاضوا التجربة. وصل بعدهم إلى حُلم الحياة الآمنة الكريمة، وثمة من تحطمت قواربهم، وأصبحت أجسادهم - بكل أسف - طعاما لحيتان البحر، وأسماكه، هؤلاء الذين يذهبون إلى الموت وهم في ريعان الشباب، هل ثمة بقي ما يحيون من أجله في بلدانهم؟ لسان حالهم بكل تأكيد: «ليس لدينا ما نخسره».

 شخصيا أعرف الكثير من شباب أريتريا، والصومال، وكذلك من بلدي تشاد، الذين خاضوا مغامرة الهجرة، ليس بالقوارب التي نراها، وإنما ثمة طرق أخرى «شبه رسمية» تقودهم إلى تلك البلدان ومن ثم يتخلصون من أوراقهم الثبوتية، ويطلبون اللجوء هناك، غالبيتهم نجح في التجربة، وأصبح بعضهم الآن يحمل شهادات علمية عُليا من جامعات أوروبا، وكندا، كما أن بعضهم انخرط في الحياة العملية، وهم الآن مواطنون أوربيون، يحنون إلى أوطانهم، وأهاليهم.

تلك مسألة أخرى، وهي الحنين إلى البلد الأم، حتى بعد النجاح، وتحقيق الطموح العلمي، في درجاته الدنيا على أقل تقدير، يدرك هؤلاء الشباب، وغالبيتهم في العشرينيات من أعمارهم، بعد مضي أكثر من عشرين عاما في بلد المهجر – هذا بعد افتراض نجاح التجربة- يدركون أن وجودهم في المكان الخطأ، وأنهم لا يمكن لهم التخلي عن جذورهم، ورابطة الدم التي تجمعهم بمن بقي من الأهل في بلدانهم، لتظل مسألة الحنين، والهجرة المضادة «تزن» على رؤوسهم. لا يمكن لهؤلاء التخلي عن جذورهم، خاصة وأن أول سؤال يتبادر إلى ذهن أحدهم (من الأوروبيين) حين يلتقيك في أحد المطارات، أو الأماكن السياحية العالمية هو «من أين أنت»؟ ، مع افتراض أن هذا السائل يرى الجواز الكندي، أو الأوروبي بين يديك!!. لم تعد الأوراق الثبوتية كافية لإثبات انتمائك لهذا البلد أو ذاك، إن المهم في هذه المسألة هو اللون والعرق!

بالعودة إلى قارب الموت في «لامبيدوزا» ثمة مواقف تبرز البُعد الإنساني للمسألة بغض النظر عن تصريحات السياسيين التي تبدو «بلهاء» في غالبيتها، ففي الوقت الذي يتضامن فيه سكان هذه الجزيرة الصغيرة مع اللاجئين، ويقدمون لهم المساعدة إن كانوا أحياء، ويقيمون الحداد على أرواح الموتى، نجد تصريحات لمسؤولين إيطاليين تدعو إلى الوقوف بحزم في وجه الهجرة التي يسمونها «غير شرعية»، وهي شرعية من وجهة نظر هؤلاء المهاجرين الذين يفقدون حياتهم حتى لو بقوا في أوطانهم. وكان الأجدر بهؤلاء المسؤولين توفير الحماية وإنقاذ المهاجرين، واستقبالهم في مقار للإيواء تليق بهم، أما فيما يتعلّق بتلك التصريحات التي صدرت عن الحكومة الأريترية وتحمّل مسؤولية وفاة هؤلاء إلى الولايات المتحدة الأميركية، فتبدو «سخيفة»، وهي مدعاة للضّحك من دولة هي في الحضيض من حيث حقوق الإنسان، وحرية الصحافة والإعلام.