بعد عقود من الأبحاث العالمية، الجدالات، والعرائض المرفوضة، أعطت الوكالة المنظّمة للمنتجات الطبية ومنتجات الرعاية الصحية في المملكة المتحدة في أواخر الشهر الماضي الباحثين في المركز الاسكتلندي للطب الترميمي الضوء الأخضر للبدء بتطوير دم اصطناعي من خلايا جذعية بالغة.

يخوّل هذا الإذن الباحثين استخدام تقنية الخلايا الجذعية المعترف بها لإنتاج مركّب يُبعد مخاطر الأمراض المنتقلة بسبب نقل الدم، مقدّماً في الوقت عينه مخزوناً لا ينضب لبنوك الدم المحدودة حول العالم (هذا إذا لم يلغِ الحاجة إليها). هكذا بعد سنوات من المحاولات الاصطناعية الناجحة جزئيّاً في أفضل الأحوال، سيُسمح لهذا المركز بإجراء أولى التجارب السريرية البشرية للدم الاصطناعي. كذلك سيتيح له الإذن إنتاج الدم «على نطاق صناعي». ألا يذكركم هذا بمسلسل True Blood (وإن بدون مصاصي الدماء)؟

Ad

تذكر روها بنجامين، عالمة اجتماع في جامعة بوسطن، أن تطوير الدم الاصطناعي سيثير على الأرجح الكثير من المسائل الأخلاقية والاجتماعية-الاقتصادية، منها المسائل التي عرقلت ابتكارات طبية عدة سابقاً.

لبنجامين كتاب جديد بعنوانPeople’s Science: Bodies and Rights on the Stem Cell Frontier (علم الناس: أجسام وحقوق على عتبة الخلايا الجذعية) يتناول القوى الاجتماعية التي توجّه البحث العلمي وتنشأ منه، لا سيما الممارسات الطبية المثيرة للجدل، مثل تجارب الخلايا الجذعية. صحيح أن بحثها يركّز خصوصاً على سياسات دفع المال لواهبات البويضات في كاليفورنيا، إلا أنها تؤكد أن أنماط عدم المساواة البنيوية هذه قد تتكرر في اسكتلندا، ولاحقاً في العالم بأسره. توضح بنجامين لمجلة Wired أننا نواجه شرَكَين: الأول طريقة إجراء التجارب السريرية على الدم الاصطناعي والثاني احتمال الحصول على براءة اختراع لهذه التكنولوجيا.

اختبار الدم الاصطناعي

يذكر المركز الاسكتلندي للطب الترميمي في بياناته في صحيفة The Scotsman أنه سيُنتج الدم الاصطناعي خلال التجارب باستخدام خلايا جذعية مستحثة متعددة القدرات، أي خلايا جذعية من الممكن إرغامها على التصرف كخلايا جذعية جنينية. ويعني ذلك أنهم سيحتاجون إلى واهبين للخلايا الجذعية اليوم وأشخاص يقبلون الخضوع لنقل دم لاحقاً. ولا شك في أن ذلك كله يتطلب المال.

تذكر بنجامين: {يقدّم معظم التجارب السريرية تعويضات. لا تُسمّى دفعات، بل تُعتبر راتباً للتخفيف من عبء المشاركة في تجارب مماثلة. نتيجة لذلك، قلما يشارك الأثرياء في تجارب مماثلة. نلاحظ أن مَن يتسجلون عبر الإنترنت للمشاركة في تجارب سريرية ينتمون عادةً إلى الطبقة الوسطى العاملة}.

توضح بنجامين أن هذه التعويضات كبيرة كفاية، ما أدى إلى ظهور مجموعة من فئران التجارب البشرية: عمالاً {موقتين} يجنون دخلاً محدوداً (15 ألف دولار إلى 20 ألفاً تقريباً) من مشاركتهم في التجارب السريرية. يعرف هؤلاء أين تُجرى التجارب، مَن يشرفون عليها، ومواقع المنازل الجماعية المتوافرة لهم في مختلف أنحاء البلد. وهكذا يجنون {الرواتب} من خلال مشاركتهم في التجارب السريرية. وتشير بنجامين إلى أن نسبة كبيرة من التجارب السريرية تعتمد على هؤلاء المشاركين في الولايات المتحدة على الأقل.

تضيف: {في هذه الحالة، يكتشف مَن لا يستطيعون العثور على عمل آخر أن التعويض الذي يتلقونه من مشاركتهم لا بأس به}. لذلك يكون هؤلاء الأشخاص، الذين ينتمون إلى الطبقات العاملة، {مستعدين لمواجهة مخاطر التجارب}. ولا سبب، وفق بنجامين، يدفعنا إلى الاعتقاد بأن المشاركين في اختبارات الدم الاصطناعي لن يكونوا من هذه الفئة.

لكن التجارب السريرية لموادّ اصطناعية، مثل الدم الاصطناعية، تحتاج أيضاً إلى مشاركين لم يتخذوا من الاختبارات الطبية مهنة، أناس لا تملأ الأدوية أجسامهم. وهذا يعني أيضاً استغلال الطبقة العاملة، فضلاً عن اللجوء إلى الدول النامية.

تقول بنجامين: {هذا سؤال تنظيمي يطرحه الباحثون: أي مكان يسمح لنا بدخوله وجمع البيانات من دون أن يفرض علينا كثيراً من القيود؟ تشمل هذه الأماكن عادةً دولاً حكوماتها ضعيفة أو لا تملك مجتمعات أبحاث خاصة بها قد تشعر أن الباحثين الأجانب يهددونها}. هكذا يتجلى مجدداً الشرخ بين الشمال والجنوب، ذلك الشرخ الذي يسمح للدول {الشمالية} الغنية بأن تستغل بانتظام دول العالم الثاني أو الثالث {الجنوبية} الفقيرة.

لمن يدفع أكثر

أضف إلى ذلك مخاطر الملكية. إذا قرر الباحثون في المركز الاسكتلندي للطب الترميمي الحصول على براءة اختراع لتقنيتهم هذه (على غرار المصنّعين الوحيدين لدم Tru Blood الخيالي)، فقد يجنون ثروة من هذه المادة، معرقلين الكثير من الأبحاث المحتملة في المستقبل.

لنتأمل في قضية جمعية الأمراض الجزيئية ضد شركة Myriad Genetics, Inc، التي نظرت فيها المحكمة العليا أخيراً. حصلت Myriad على براءة اختراع ترتبط بمورثتين حدد باحثوها علاقتهما الوراثية بسرطان الثدي: المورثتان بحد ذاتهما لا طريقة اكتشافهما. (إن كنت قد سمعت بهذه القضية، فربما يعود الفضل في ذلك إلى العمل الذي قامت به Myriad لأنجلينا جولي). ولم تجعل براءة اختراع هذه الشركة الفحوصات المتعلقة بهاتين المورثتين باهظة الثمن فحسب، بل حوّلت الحصول على رأي ثانٍ إلى مهمة مستحيلة.

في 13 يونيو، حكمت المحكمة العليا لصالح جمعية الأمراض الجزيئية، معتبرةً أن Myriad لا تستطيع الحصول على براءة اختراع لحمض نووي فعلي يتوافر في الطبيعة. ولكن تستطيع الشركة الحصول على براءة اختراع لحمض نووي متمم (cDNA)، مستنسخات مهندسة اصطناعيّاً من هذه المورثات. لكن الحكم في قضية Myriad لا ينطبق إلا على الأبحاث الجينية، ما يعني أن الدم الاصطناعي الشبيه بالحمض النووي المتمم، بما أنه يُنتج باستخدام مراصيف حيوية (biological templates)، قد يخضع لبراءة اختراع.

إذا حققت تجارب المركز الاسكتلندي على الدم الاصطناعي النجاح، ثم أُخضع المنتج لبراءة اختراع وطُرح في السوق العالمية، فمن المرجح أن تكون كلفته باهظة. (ترغبون في أمثلة سابقة؟ أتاحت براءة الاختراع لشركة Myriad تقاضي ما لا يقلّ عن 3 آلاف دولار لقاء فحص لا تزيد كلفته عموماً عن ثلاثمئة دولار). لكن هذه الكلفة المرتفعة قد تنعكس سلباً على المرضى، خصوصاً في الولايات المتحدة وغيرها من دول لا تملك نظام رعاية صحية حكوميّاً.

المفارقة التي يمكننا أن نستخلصها من كلمات بنجامين أن مَن لا يستطيعون تحمّل كلفة الإنجازات الطبية يكونون غالباً مَن يضمنون نجاحها في المقام الأول.

تذكر بنجامين: {هل تتخيلون الطبيب في حالة مريض لا يملك تأميناً صحيّاً، مثلاً، يتساءل: هل نستخدم دماً اصطناعيّاً يعمل بشكل أسرع وأكثر فاعلية، مقارنة بالدم الفعلي، ويُعتبر أكثر كلفة؟ أم يفضّل استعمال الدم الحقيق الأقل كلفة في حالة هذا المريض، خصوصاً أنه لا يملك تأميناً صحيّاً؟ من المرجح أن يختار الطبيب المنتج الأقل جودة. هكذا تُحرم المجموعة عينها التي تشكّل ركيزة الأبحاث، بسبب التفاعلات بين الطبقات والأعراق، من التمتع بفوائدها لاحقاً لأنها لا تملك تأميناً صحيّاً}.

لكنها تؤكد أن قانون Affordable Care Act سيحدّ من هذا التمييز، وذلك وفق الفحوص والعلاجات التي قد يشملها.

لا ينطبق هذا كله بالتأكيد على حالة دم المركز الاسكتلندي الاصطناعي لأن التجارب بحد ذاتها لم تبدأ بعد. يُشار إلى أن ثمة احتمالاً أن يتحوّل نجاح هذا الدم المحتمل إلى ما شهدناه مع لقاح شلل الأطفال. فعندما سأل مراسل عام 1955 مكتشف اللقاح يوناس سولك عن مالك براءة الاختراع، أجابه: {أقول إنه الشعب. ما من براءة اختراع. فهل تستطيع الحصول على براءة اختراع للشمس؟}.

لكن كرم الأخلاق هذا بات نادراً في عصرنا اليوم. وكما تشير بنجامين: {الإطار العام الذي سينزل فيه الدم الاصطناعي إلى الأسواق مختلف كل الاختلاف عن أيام يوناس سولك}.