عندما يعبر رجال الأعمال والمستثمرون الأجانب إلى الضفة الغربية، يخرجون جوازات سفرهم، يطفئون هواتفهم الذكية التي تفقد كل إرسال، ويبدلون طريقة تفكيرهم من الاستثمار إلى المساعدة. تقتصر التغطية الجيدة للهواتف النقالة في الأراضي الفلسطينية على المدن الكبرى والمستوطنات الإسرائيلية. أما الإنترنت الفائق السرعة في الهواتف المحمولة، فخاصية لا وجود لها تقريباً في تلك المنطقة. لذلك ما رأيكم بهذه الفكرة؟ زوّدوا الضفة الغربية بوصلات إنترنت لاسلكية من الجيل الثالث، ميزة لطالما حُرمت منها، وامنحوا الإسرائيليين الذين يملكون شركات فلسطينية ضمن سلاسل إمدادهم، استثناءً من جامعة الدول العربية بعدم مقاطعة المنتجات الإسرائيلية.

Ad

من دون تكنولوجيا الجيل الثالث والفرص الاقتصادية التي ترافقها، ستواصل هذه الأراضي على الأرجح انزلاقها صوب القتال، ففي شهر نوفمبر الماضي، زرت مدينة الخليل في الضفة الغربية، حيث صادفتُ مسيرة مشتركة لحركتَي "فتح" و"حماس"، رأيت مئات الرجال الفلسطينيين يسيرون في شارع المدينة الرئيس اليد باليد، ملوحين بأعلام "فتح" إلى جانب رايات "حماس". لا شك أن هذا تطور مخيف، إذ يشير هذا التقارب بين "فتح" و"حماس"، اللتين طالما كانت العلاقات بينهما عدائية، إلى تنامي الطابع العسكري للسياسات الفلسطينية. باتت "فتح" اليوم حزباً سياسياً معتدلاً. في المقابل، لا تزال "حماس" منظمة إرهابية، بغض النظر عن شعبيتها وتأثيرها المتنامي في السياسة. فلم توقف هذه الحركة اعتداءاتها العشوائية، بما فيها إطلاق قذائف الهاون والصواريخ على أهداف إسرائيلية مدنية.

خلال زيارتي الضفة الغربية، قدّمت محاضرة في جامعة "بوليتكنيك" فلسطين، التي تعلّم أكثر من 5 آلاف طالب كل سنة في مجالات الهندسة، وتكنولوجيا المعلومات، وعلوم الكمبيوتر. بعد أن أمضيت 20 دقيقة أصغي إلى الشكاوى بشأن تصويت الولايات المتحدة الأخير ضد منح فلسطين صفة دولة مراقبة غير عضو (والتالي سيادة ضمنية) في الأمم المتحدة، تحوّل النقاش إلى ما يمكن القيام به خارج عالم السياسة لجعل الحياة أفضل في الضفة الغربية. وفي مرحلة ما خلال حوارنا، رفعت شابة يدها وقالت: "يجب أن نتمتع باقتصاد أفضل كي نحظى بحياة أفضل. وكي ننعم باقتصاد أفضل، نحتاج إلى تكنولوجيا 3 جي". فعلا التصفيق في القاعة، فقد أثارت هذه الطالبة إحدى المشاكل الأكثر إلحاحاً التي يواجهها الفلسطينيون في حياتهم اليوم.

قد يبدو الجيل الثالث من تكنولوجيا اتصالات الهواتف المحمولة (3 جي) رفاهية بالنسبة إلى البعض، إلا أنه من أسس التنمية الاقتصادية، فلن تتمكن الأراضي الفلسطينية من المنافسة وتحقيق النجاح في اقتصاد اليوم الغني بالتكنولوجيا، الذي يستند إلى المعلومات، إذا لم تتوافر لها البنية التحتية الأساسية للمشاركة، ما يشمل القدرة على استخدام موجة عريضة خاصة بالأجهزة المحمولة. في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، مثل الأراضي الفلسطينية، اكتشف البنك الدولي أن زيادةً قدرها 10% في ولوج الموجة العريضة تؤدي إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي بنحو 1.38%. ولا شك أن تكنولوجيا الجيل الثالث سيكون لها تأثير إيجابي في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الفلسطيني، ما يولّد 60 مليون دولار إضافية سنوياً، فضلاً عن عائدات جديدة للسلطة الفلسطينية تصل إلى 150 مليوناً.

علاوة على ذلك, ثمة وجه أمني إيجابي لتجهيز الضفة الغربية بتكنولوجيا الجيل الثالث، فمن بين أسباب الإرهاب الرئيسة، وفق أبحاث أعدها المركز الدولي لمكافحة الإرهاب، الحرمان والتهميش، اللذان يغذيهما توقف النمو والبطالة. لنتأمل مثلاً في جامعة "بوليتكنيك" فلسطين: في شهر مارس عام 2003، عمد طالب (20 سنة) يدرس علوم الكمبيوتر يُدعى محمود قواسمة إلى تفجير نفسه في حافلة في حيفة بإسرائيل، ما أدى إلى مقتل 17 شخصاً وجرح 53 آخرين. يتخرج كل سنة نحو ألفَي طالب من جامعات محلية بعد التخصص في مجالات تقنية، إلا أن 30% منهم فقط يعثرون على عمل في مجال تخصصهم. ولا شك أن الأصولية والمهارات الهندسية مزيج خطر، لذلك من الضروري مساعدة هؤلاء الشبان على إيجاد عمل.

ثمة شركات عدة مستعدة راهناً لتحويل الجيل الثالث إلى حقيقة في الأراضي الفلسطينية، لكن إسرائيل رفضت حتى اليوم منحها الإذن باستخدام الموجات الضرورية واستيراد المعدات. يعتقد البعض أن إسرائيل ترفض منحها هذا الإذن لأسباب أمنية، ويؤكد البعض الآخر أنها تود حماية شركات الاتصالات الإسرائيلية أو الحد من السبل التي يستطيع الفلسطينيون من خلالها مشاركة العالم في روايتهم ومآسيهم. ولكن ثمة مَن يعتقدون أيضاً أن الحكومة الإسرائيلية تخشى القوة التي سيستمدها الشباب الفلسطيني من أساليب التواصل الجديدة هذه. إذاً، المشكلة سياسية لا اقتصادية أو تقنية، لكن هذا الحظر لا يكلّف السلطات الفلسطينية نحو 150 مليون دولار من عائدات الضرائب السنوية الضائعة فحسب، بل يعيق أيضاً نمو قطاع التكنولوجيا العالية الفلسطيني. نتيجة لذلك، يُضطر هذا القطاع في الأراضي الفلسطينية إلى التركيز على مهام محدودة، مثل استيراد آخر الابتكارات من الخارج، فمن دون الجيل الثالث، تعجز الشركات الفلسطينية الناشئة عن التخصص في المهام العالية القيمة، مثل تطوير البرامج الإلكترونية.

لكن تدابير بناء الثقة يجب أن تكون متبادلة، فإن سمحت إسرائيل باستخدام تكنولوجيا الجيل الثالث في الأراضي الفلسطينية، فعلى الدول العربية أن تحدّ من مقاطعتها المنتجات الإسرائيلية وتستثني مَن يملكون شركات فلسطينية في شبكات إمدادهم. من الضروري أن تسمح الدول العربية لمواطنيها بأن يؤمنوا العمال والخدمات لهذه الشركات، وإذا أرادوا ملصق "صنع في فلسطين" على المنتجات، فأين المشكلة؟

حقق المبادرون والمستثمرون الإسرائيليون النجاح رغم عجزهم عن دخول أسواق الدول المجاورة والاستعانة بقواها العاملة، غير أنه ما من أمثلة أخرى على مستوى النجاح الاقتصادي هذا في ظل ظروف مماثلة. فالقدرة على الإمداد التي تُطوَّر من خلال التكامل الإقليمي تعدّ الدول لدخول الاقتصاد العالمي بقوة. وفي حال كانت الدول العربية تظن أنها تقدم لإسرائيل تنازلاً كبيراً، فعليها أن تتذكر أن قواها العاملة ستستفيد من ولوج سلاسل إمداد شركات التكنولوجيا الإسرائيلية العالية الجودة. تظهر الوقائع أن الدول العربية لا تُنتج منتجات وخدمات تقنية عالية الجودة على مستوى يتيح لها وإن من بعيد منافسة النجاح الإسرائيلي. إذن، تحتاج الدول العربية إلى الوظائف، وقد تتعلم بعض التفاصيل عن قطاع الأعمال القائمة على التكنولوجيا من إسرائيل، سواء أقرت بذلك أو أنكرته.

لا يُشكل تأمين تكنولوجيا الجيل الثالث في الأراضي الفلسطينية سوى مثال واحد لنوع الخطوات التي يجب على الإسرائيليين، الفلسطينيين، والأطراف الأخرى الترويج لها. وبغية التغلب على التشاؤم والريبة المتفشيين في المنطقة، ينبغي للإسرائيليين والفلسطينيين أن يلمسوا تقدماً حقيقيّاً يجعل حياتهم اليومية أفضل، حتى لو كان هذا التقدم تدريجياً وبطيئاً. ويمكن للأمور البسيطة التي تُنجَز اليوم أن تنجح أكثر من أي خطوة أخرى في دعم تحقيق الأهداف الأكبر غداً.