تكثر هناك النسور التي تبحث عن الجيف وتفتش النفايات. تأتي من الغابة وتقتات من مخلفات المدينة. تُسمى «أوروبوس» في شمال البرازيل، وهي عبارة عن نسور سوداء لها منقار معكوف ورأس كالحرباء.تقول الشعوب القديمة إن الطيور تجلب سوء الطالع. اليوم، ثمة الآلاف منها في مدينة ألتاميرا، أي أكثر من أي وقت مضى. يقول الأسقف إروين كروتلر: «النسور هي مؤشر واضح على الفوضى التي تعيشها المدينة». يتحدر كروتلر من النمسا وهو المسؤول عن إحدى أكبر الأسقفيات في العالم، حتى إنها أكبر من ألمانيا. يتحدث عن الفوضى ويتوجه إلى كل كاميرا تصوّره ويتكلم بصوت عالٍ (ربما كان صوته أعلى من اللزوم بالنسبة إلى أصحاب الأراضي الكبار والمؤسسات والحكومة). عرض أعداؤه مكافأة بقيمة 400 ألف يورو (543 ألف دولار) مقابل رأس الأسقف. وحتى أبرز صحيفة في شمال البرازيل كتبت أن الوقت حان «للتخلص» منه. يبلغ الأسقف كروتلر 73 عاماً الآن. كان يعيش في ألتاميرا، على طرف الغابة المطيرة ووسط منطقة الأمازون، طوال 50 عاماً تقريباً. خلال السنوات الثلاثين الماضية، كان يحارب بناء السد في جوار المدينة مباشرةً، وهو مشروع مربح مالياً بالنسبة إلى الكثيرين في المنطقة.يقدم كروتلر وأصدقاؤه من المنظمات البيئية النصائح إلى الضحايا ورفع الدعاوى ضد الوكالات الحكومية وتنظيم المسيرات الاحتجاجية. لقد تحدث مع النيابة العامة والمحكمة العليا في البلاد، وقابل الرئيس مرتين، وحصد «جائزة نوبل البديلة»، لكن من دون جدوى!«الجبل الجميل»من المتوقع أن يبلغ العدد السكاني في ألتاميرا 300 ألف نسمة قريباً، بعدما كان يقتصر على 100 ألف نسمة منذ فترة غير بعيدة. تطلق شركات البناء اسم «بيلو مونتي» أو «الجبل الجميل» على ذلك السد، بينما يسميه معارضو المشروع «الجبل الجميل المشؤوم». يجذب هذا السد العمّال، ما يؤدي إلى نمو المدينة وزيادة حاويات القمامة فيها، فضلاً عن جذب النسور السوداء من الأدغال.المعركة التي يخوضها كروتلر صراع ضد أكبر موقع بناء في أكبر غابة مطيرة في العالم. من المتوقع تشغيل أول توربين من أصل 24 في عام 2015. بدءاً من عام 2019، سينتج السد طاقة بقدر ما ينتجه 11 مصنعاً للطاقة النووية. لتحقيق ذلك، سيقطع حوالى 18 ألف عامل رقعة أرض توازي تلك التي اقتطعها العمّال لبناء قناة بنما. يبنون خزاناً أكبر من بحيرة كونستانس لتشييد ثالث أكبر سد في العالم، ومن المتوقع أن يصبح هذا المشروع رمزاً لشعار البرازيل «النظام والتطور».يقتبس كروتلر مضمون إنجيل متى، الفصل 24، الآية 15: «فمتى نظرتم رجسة الخراب...» ليؤكد على أن الخزان سيكون عبارة عن بحيرة هالكة وفاسدة وأن السد سيعني نهاية النهر الذي يغذيه، ريو شنجو، أكبر رافد في الأمازون، وهو يتدفق مباشرةً إلى ما وراء مجال رؤية الأسقف. وفق كروتلر، ستنتشر حمى الضنك وسيفيض مجرى النهر من السد إلى المدينة وستضطر الحكومة إلى تغيير إقامة 40 ألف شخص على الأقل، لا سيما أفقر الفقراء الذين يعيشون عموماً بالقرب من ضفة النهر.في غضون ذلك، سيواجه السكان الأصليون المقيمون في أسفل السد وضعاً صعباً وسيُجبَرون على مغادرة أراضيهم حين يصبحون عاجزين عن صيد السمك. يصف كروتلر المكان بعبارة «آخر قطعة من الجنة».«أفاتار» في البرازيلالسد أبرز مشروع مثير للجدل في البرازيل. لكل شخص في البلد رأيه عن «الجبل الجميل»، لا سيما بعد أن انتقده بعض الممثلين المعروفين في المسلسلات التلفزيونية اللاتينية كونهم يحظون بشعبية واسعة بين البرازيليين. ظاهرياً، يبدو الوضع واضحاً نسبياً. من جهة، نجد اتحاد البناء «نورتي إنيرجيا» والمسؤولين الحكوميين الفاسدين ووزارة الطاقة. ومن جهة أخرى، نجد السكان الأصليين والغابة المطيرة ومئات آلاف السلاحف. إنه صراع قديم جداً وهو يولّد مواجهة بين الخير والشر، تماماً مثل الصراع الذي عرضه المخرج جيمس كاميرون في فيلم «أفاتار»، حيث يرمي السكان الأصليون السهام على الجرافات التابعة للشركات الكبرى.حضر كاميرون إلى منطقة الأمازون في ربيع عام 2010 لأنه لاحظ أن القصة التي عرضها في فيلمه تحوّلت فجأةً إلى حقيقة، فوصل على متن مروحية وجال في النهر في مركب كهربائي. ثم تحدث مع مجموعة تمثّل بعض قبائل السكان الأصليين. كان زعيم إحدى القبائل، جيليارد جورونا، حاضراً أيضاً. كان هذا الأخير قد شاهد كاميرون على التلفزيون وشعر بالفخر لأن المخرج حضر شخصياً إلى المنطقة.قال كاميرون: «أنتم تملكون أصلاً أعظم ثروة في العالم». ثم أشار إلى النهر وقال: «لديكم سمك». ثم أشار إلى الغابة: «لديكم غابة». كانت هذه طريقته لتفسير ذلك العالم أمام السكان المحليين. ثم أضاف: «تملكون ثروة من النوع الذي لا يفهمه عالمي». ثم عاد إلى المدينة وتبرع بنصف مليون دولار.كانت هذه الرسالة تشبه رسالة فيلمه: السكان المحليون أبرياء، لكنهم يحتاجون إلى الصمود، إلى رجل أبيض مثل الجندي السابق في البحرية الأميركية جايك سولي في «أفاتار». قد يتساءل البعض عن التغيير الذي أصاب كاميرون بعد تلك الزيارة وعن معنى الثروة التي لا يفهمها عالمنا. يبدو كاميرون شبيهاً بالموسيقي ستينغ إلى حد ما، فقد غنى هذا الأخير في حفلة خيرية لصالح سكان الأمازون الأصليين، لكنه سافر إلى نيويورك أيضاً على متن طائرة «كونكورد» وتحدث بحماسة عن تجربة التحليق بسرعة تساوي ضعف سرعة الصوت.لا تنسوا الأشجار!وقف بيدرو بلانكو، متحدث باسم اتحاد البناء، في أعلى التلة وأشاح نظره عن نهر ريو شنجو الذي بدأ يجف. تقضي وظيفته بشرح ما يحصل في الأسفل حيث سيُقطَع النهر وستضخ أجهزة الشفط الطين وستجف جذور الأشجار. لكن استعمل بلانكو جهاز «أيفون» لتصوير واحدة من آخر أشجار الكستناء الباقية هناك. أزال العمّال النفايات في موقع البناء وأنقذوا صغار السلاحف، كذلك تركوا بعض الأشجار المحميّة من دون إيذائها. التقط بلانكو صورة مقربة عن لحاء الشجرة مع ظلال الأوراق الداكنة في خلفية الصورة، ما يتناقض بشدة مع مشهد السماء في الأعلى. ثم قال بلانكو: «لأنه مشهد جميل... للشجرة روح طبعاً، فكل ما هو حي له روح».يتباهى المتطوعون ومناصرو البيئة بوجود 25 قبيلة في المنطقة، إلى جانب 24 لغة مختلفة، وهي تختلف في ما بينها مثل اختلاف العربية عن الصينية. لكن يتكلم جيليارد، زعيم قبيلة جورونا، باللغة البرتغالية. لا يحب الطريق الجديدة المؤدية إلى بلدته، لكنه يسلكها لأنها تكون أسرع من التنقل في النهر بالمركب.كان والده صياداً، لكن يريد أطفال البلدة أن يصبحوا معلّمين أو جنوداً. تبقى الشجرة شجرة بالنسبة إلى جيليارد، وهو يأمل بأن تحصل بلدته يوماً على طبيب ومدرسة ثانوية، وأن يحصل الناس على فرصة جني أموال كافية لعيش حياة جيدة. هذا هو معنى الثروة الحقيقي بالنسبة إليه. ما الذي يُجبره على العيش بالطريقة التي يعتبرها المخرج كاميرون مؤاتية بالنسبة إلى الهنود في الأمازون؟حين حضر الأسقف كروتلر للمرة الأولى إلى ألتاميرا في شبابه من بلدة كوبلاش النمساوية، كان المكان واعداً جداً. اليوم، يقول إن الوضع أصبح أشبه بالحرب. يحميه أربعة شرطيين على مدار الساعة وهو لا يخطو أي خطوة ولا يلقي أي عظة من دونهم. حارب الأسقف لمصلحة السكان الأصلين، وهو أمر يكفله الدستور، لمعرفة ما سيحصل في أرضهم. خلال أحد الخلافات، اصطدمت شاحنة بسيارته وقُتل شخص في مقعد الركاب.عارض الحصول على قرض بقيمة 500 مليون دولار (369 مليون يورو) من البنك الدولي. بالتالي، هو أشبه بشوكة في خاصرة الشركات التي تريد أن تكسب الأرباح من مشروع السد والشركات التي تُعتبر عموماً من أبرز الجهات المانحة للأحزاب السياسية. أشار كروتلر إلى حفرة في إحدى الصخور وراء تسع كاميرات أمنية. في تلك النقطة، قُتل موظف في عام 1995 وقُتلت راهبة بعد 10 سنوات. كانت هذه الأخيرة قد حاربت بدورها ضد مشروع السد.يريد كروتلر أن يذهب للهرولة هناك مجدداً، أمام منزله وعلى ضفة النهر الذي يحبه. لكن تمنعه الشرطة. إنها إحدى أبرز التدابير الوقائية التي تتخذها لتجنب قتله. يستطيع الآن ممارسة الرياضة في باحة مغلقة قبل شروق الشمس من كل صباح، فيخطو 65 خطوة نحو الأمام و65 أخرى نحو الوراء، ويقطع المساحة اللازمة لتلاوة المسبحة ثلاث مرات. حُرم من حريته في الخارج ولكنهم لا يستطيعون حرمانه من حريته الداخلية بحسب قوله.مظاهر الرفاهية المعاصرةأصبحت ألتاميرا مدينة توفر جميع خدمات العناية بالكلاب، مثل أخذها في نزهة وتنظيفها وتدليكها، مقابل 30 يورو. على صعيد آخر، يغسل الموظفون الأرصفة بمنتجات التنظيف أمام بعض الفنادق. يتدفق عشرات الآلاف (بما فيهم العمّال والموردون) إلى هذه المدينة المكتظة. كل بضعة أيام، تنقطع الكهرباء لساعات عدة، فيتابع العمال تفريغ الثلاجات الجديدة من العربات على ضوء الشموع. تعلو أصوات الشعارات التسويقية من مكبرات الصوت في الدراجات مثل «يمكنكم الآن تحقيق أحلامكم!».رغم مظاهر الحياة المعاصرة، تحتاج مدينة ألتاميرا إلى الكهرباء مثلما يحتاج جيمس كاميرون وإروين كروتلر وبيدرو بلانكو وجيليارد جورونا إلى الكهرباء. سيمنحهم «الجبل الجميل» تلك الكهرباء. إنه الوعد المنتظَر! لكن لن يصمد المشروع اقتصادياً إلا إذا بُنيت سدود إضافية.لبناء السد، احتجزت الجهات المعنية المعارِض دوم إروين (يُعرف الأسقف بهذا الاسم محلياً) في منزله. يقول إن عدداً كبيراً من الهنود التزم الصمت مقابل تعويضات مالية عن أراضيهم لأن السدود ستدمرها. من المتوقع أن يتلقى السكان الأصليون 570 مليون يورو من الحكومة. صحيح أن أبرز أعضاء القبائل كرروا اعتراضهم على مشروع السد، لكن سرعان ما استسلم معظمهم.تدفع شركة البناء تكاليف جهاز التلفزيون الخاص بجيليارد وسيارته الهوندا ووقوده ومنشاره ومركبه الجديد. في شهر يناير، أعاق مع مجموعة مواطنين يفكرون مثله الطرق المؤدية إلى السد، فأوقفوا العمل طوال أيام. ثم طالبوا بأموال إضافية، حوالى 100 ألف يورو، للتعويض عن تلوث مياه النهر. لكن في النهاية، وافقوا على تلقي ثلث ذلك المبلغ فقط من شركة البناء.يصف الأسقف كروتلر تلك الأموال بعبارة «الخرز الزجاجي الحديث». بحسب قوله، هذه ليست إبادة جماعية عادية بل إنها «إبادة بالذهب». يأتي الهنود الآن إلى المدينة أو يستعملون الأموال التي حصلوا عليها لشراء أمور ما كانوا يحتاجون إليها سابقاً. على صعيد آخر، يعتبر السكان الأصليون أن النهر هو «بيت الآلهة».نسور تتربص بفريستهابالنسبة إلى كثيرين، يُعتبر «بيت الهنود» اليوم أهم من «بيت الآلهة». إنه مبنى منعزل وهو أشبه بفندق قديم يقيم فيه أصحاب الأراضي السابقون. يصل الكثيرون إلى هنا وهم يشعرون بالخجل وحاملين الحقائب والسلاحف.في هذا المكان، يبيت السكان الأصليون حين يحضرون إلى المدينة للقيام بأعمال معينة أو ينتظرون تلقي الأموال هناك. يعلّق السكان على أبوابهم بطاقات ورقية عليها أسماء القبائل التي تشبه الأحجيات: «شنجو»، «أرارا»، «أراويتي»، «جيكرين»، «كايابو».نسيت امرأة تقيم هناك طريقة لفظ اسمها بلغتها الأصلية. تحلم بإنجاب أطفال سمينين. إنه حلم مثالي بالنسبة إليها. وتحب المدينة لأنها لا تشمل أي حيوانات برية. ولكنها تكرهها لأن البيض يظنون أن السكان الأصليين كسالى. تخاف من الضفادع وتحب خدمة الدردشة (MSN) أكثر من موقع «فيسبوك» الذي تستعمله عبر حساب شقيقتها. كذلك تفضّل جهاز «سامسونغ» على «آبل»، وتحب شكل ظلال العيون الذي تستعمله.تقول تلك المرأة الهندية إن اللغة أهم عنصر لأنها تحمي هويتها. لكن ينتمي زوجها إلى قبيلة مجاورة وهي لا تفهمه حين يتكلم لغته. لذا يتكلمان اللغة البرتغالية مع بعضهما ومع أولادهما.المال نقطة ضعف الهنود بحسب رأي كروتلر، ويشبه مديري شركة بناء السد النسور السوداء. حين يبحث النسر عن وجبة طعام، يحلق عالياً ويركز جميع حواسه على الفريسة ثم يطير نحو الجيفة لافتراسها. لكن إذا لم يجد الطير أي جثة، يبدأ بمطاردة الضعفاء. يمكن أن يقتل سرب من النسور عجلاً ومن عادة الطيور أن تستهدف أكثر المناطق الحساسة: العيون واللسان والأنف. عندها قد تشعر الضحية بالصدمة فيما ينشغل النسر في قتل فريسته.
توابل - EXTRA
AVATAR متجسّداً في البرازيل!
05-02-2013