قد يختلف البعض حول تقييم الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، لكن من الظلم والتجاوز أن نقلل من قيمة ودور الطيار محمد حسني مبارك. هذه حقيقة لو آمنّا بها لكانت علامة مهمة وواضحة على أن المجتمع في طريقه إلى الارتقاء إلى مستويات أعلى في التعامل مع أبنائه، لم أنسَ أبداً تعليق أحد الأصدقاء الإنكليز أثناء مرحلة "تجريس" مبارك ومحاكمته ونقله من بيته إلى المستشفى، ومنه إلى القفص الذي بني له خاصةً، تحت إشراف الوزير المختص وقتها، ثم إلى السجن، عندئذ تساءل صديقي متعجباً: "ألم يحارب مبارك يوماً مع الجيش؟"، فأجبته: بل شارك في ثلاث حروب منذ حرب السويس عام 1956 ثم حرب يونيو 1967 ثم أخيراً حرب أكتوبر 1973 التي تعد بحق الانتصار الأهم في تاريخ العرب، تعجّب الرجل مما يتعرض له مبارك من مهانة، قائلاً: "لو أنه في بلادنا لكان الوضع مختلفاً، هذا رجل حارب ووضع روحه على كفه، ليس مرة ولكن مرات، وهذا له قيمة كبيرة أن تكون محارباً من أجل بلدك".

Ad

لم تكن محاكمة الرئيس الأسبق هي أكثر التصرفات قسوة ضده، ولكنني أعتقد أنها اللحظة التي قرروا فيها سحب كل النياشين والقلادات والأوسمة التي حصل عليها، أظن أن إحساسه بنزع نجمة سيناء منه كان أكثر الأحاسيس قسوة على نفسه، يعتقد العديد -وأنا من بينهم- أن حساب السياسي على الأخطاء مكانه الفعل السياسي وحكم التاريخ، والفعل السياسي هنا يمكن تنفيذه من خلال أدوات التغيير الديمقراطية أو من خلال التظاهر ضده أو العصيان المدني أو خلعه من السلطة أو حتى الانقلاب عليه، لكن لا أتفق على أن من بين أساليب المحاسبة والعقاب لما يعتقد أنه أخطاء سياسية استخدام أدوات العدالة لتوقيع عقاب انتقامي تحت مسميات مختلفة، لكنها جميعاً تنتهي إلى اتباع سلوك غير حضاري لتحقيق الانتقام وشفاء الغليل.

حكم مبارك مصر ثلاثين عاماً، هناك من اعتبرها ثلاثة عقود من الظلام والديكتاتورية وامتهان الكرامة الإنسانية وسنوات من النهب والفساد والتراجع وكل التعبيرات المرادفة لهذه المعاني، وهناك على طرف آخر، وهم قطاع كبير، من يعتقد أن الرجل أصاب وأخطأ، وحاول فأصاب النجاح مرات وخاصمه مرات أخرى، ويعتقد هؤلاء أن مبارك لو كان قرر الانسحاب من الحياة العامة عقب وفاة حفيده والجراحة الكبيرة التي أجريت له لكان قد سطر اسمه في التاريخ بحروف أبدية، ولكان صاحب موقع متميز في نفوس المصريين، طرف ثالث من المؤمنين بمبارك ومن يطلقون على أنفسهم "أبناء مبارك" هؤلاء لا يجدون في رئيسهم إلا كل الصواب، وعزز موقفهم في ما بعد الأسلوب الذي حكم به "الإخوان المسلمين" فعاد قطاع كبير من الجماهير يتمنى عودة مبارك.

إذاً، كما نرى هناك اختلاف مفهوم على تقييم دور مبارك، أما ما لم يكن مفهوماً فقد كان هذا الهجوم الكاسح والمتجاوز ليس على مبارك الرئيس بل على مبارك الطيار المقاتل، فخرج البعض يسفه من دوره في حرب أكتوبر، بل وصل الأمر بالبعض إلى أن يسفه دور الطيران المصري في الحرب، ويدّعي أن كل ما ذكر عن دور سلاح الطيران كان من قبيل المبالغة والنفاق لقائدهم الذي أصبح رئيساً لمصر، وهذا الموقف كان تعبيراً عن انحدار ملموس في نفسية قطاع من المصريين أعماهم الغضب والرغبة في التشفي والانتقام عن أن ترى الأمور في صورتها وحدودها، بل قادتهم هذه المشاعر السلبية لأن يتجهوا إلى نزع القيمة عن جزء ناصع من تاريخهم وتاريخ وطنهم هو ذلك الدور المحوري والأساسي والشجاع لسلاح الطيران المصري في حرب أكتوبر.

كان الله حليماً بحسني مبارك أن أعطاه الفرصة ليرى جزءاً من رد الاعتبار إليه، بعد أن عانى ما عانى خلال الأشهر الطويلة التي أعقبت سقوط نظامه في فبراير 2011، فأتت الذكرى الأربعون لنصر أكتوبر وهو غير مدان بأي تهمة بعد، بل والأهم أن يبدأ الحديث مرة أخرى عن دور سلاح الطيران وأن يخدمه القدر لتخرج إلى النور مذكراته التي كتبها وهو يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية حول دور الطيران الذي كان هو قائده في حرب أكتوبر لتُظهر معدنه الحقيقي كقائد عسكري وطيار مقاتل حارب من أجل بلده حاملاً روحه على كفه، أظن أن مبارك الطيار المقاتل قد يكون من أكثر الناس سعادة هذه الأيام وهو يحتفل بذكرى نصر أكتوبر الذي كان له ولزملائه فيه دور مهم لن يغفله التاريخ حتى لو بدا الأمر مختلفاً في بعض الأحيان.

التحق الشاب محمد حسني مبارك بالكلية الحربية عام 1947 وتخرج فيها عام 1949، وفي عام 1950 تخرج في الكلية الجوية. وشارك في حرب 1967 ثم قرر الرئيس عبدالناصر تعيينه مديراً للكلية الجوية في نوفمبر 1967، ثم قرر في يونيو 1969 تعيينه رئيساً لأركان حرب القوات الجوية، وأصدر الرئيس أنور السادات في 23 أبريل 1972 قراراً بتعيين اللواء حسني مبارك قائداً للقوات الجوية، ثم بعد ذلك نائباً لوزير الحربية (الدفاع) إلى جانب مهمته كقائد للقوات الجوية، وكانت المهمة واضحة: إعداد القوات الجوية لحرب تحرير كبرى تستعيد التراب الوطني، وتمحو ما لصق بالقوات الجوية المصرية من عار الهزيمة في 1967.

وفي الساعة الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر منذ أربعين سنة انطلقت 222 طائرة تعبر قناة السويس، وفي الساعة الثانية و45 دقيقة دق جرس الهاتف في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة (مركز رقم 10) وجاء نص المكالمة كالتالي: (تمام القوات الجوية... المهمة تم تنفيذها بالكامل في أوقاتها المحددة... عادت جميع طائراتنا عدا طائرة واحدة استشهد قائدها)، كان هذا نص المكالمة التي أجراها اللواء حسني مبارك الطيار المقاتل.