بما أن انتخابات الرئاسة الإيرانية ستُعقد بعد شهرَين، نشهد راهناً مناظرات حامية في مجال السياسة الخارجية بين جمهور كبير من المرشحين، واللافت للنظر أن مجموعة من الأصوات البارزة تحاول الحد من التوتر مع إسرائيل.

قد تعكس هذه اللهجة الناعمة المتنامية توافقاً جديداً بين النخبة الإيرانية حول أن مصلحة الأمة تقتضي اعتماد مقاربة معدلة تجاه إسرائيل، نظراً إلى تأثير تل أبيب الكبير في العواصم الغربية، وتطبيع تركيا العلاقات مع إسرائيل، ولامبالاة العالم العربي بمشاكل الفلسطينيين، مقارنة "بالتزام إيران التقليدي المفرط".

Ad

وفي طليعة مَن يقودون المسيرة نحو سياسة إسرائيلية جديدة الرئيس السابق علي أكبر هاشمي رافسنجاني، الذي عبر عن نيته الانضمام إلى السباق الرئاسي. فقد أعلن بصراحة أن إيران "لا تخوض حرباً ضد إسرائيل". وبدعوته إلى سياسة خارجية بعيدة عن المواجهة، انتقد رافسنجاني الرئيس محمود أحمدي نجاد على خطابه الناري الذي ارتد سلبا على إيران.

ردد هذه الأفكار عينها مرشحان آخران محتملان للانتخابات الرئاسية: محمد باقر قاليباف، عمدة طهران، وغلام علي حداد عادل، مشرع متحفظ مقرب من القائد الأعلى. فقد اعتبر هذان المرشحان أن من الملائم انتقاد "إنكار أحمدي نجاد للمحرقة النازية" كجزء من حملتهما.

اقتبست وسائل الإعلام الإيرانية عن قاليباف قوله الأسبوع الماضي: "أُثيرت مسألة المحرقة فجأة من دون الأخذ في الاعتبار تأثيراتها وتداعياتها، ولكن هل عاد ذلك بأي فائدة على تقدم إيران والفلسطينيين؟". لكن السؤال الذي ينشأ هنا: هل يعبر علي أكبر ولايتي (وزير خارجية سابق ومستشار القائد الأعلى الذي شكل تحالفاً مع قاليباف وعادل، استعداداً للسباق المقبل) علانية عن مشاعر مماثلة؟

بغض النظر عن الجواب، يُظهر واقع أن بعض القادة السياسيين الإيرانيين البارزين نأوا بأنفسهم عن سياسة إدارة أحمدي نجاد المناهضة لإسرائيل مدى عمق المناظرات السياسية وجديتها في إيران اليوم. كذلك يعكس هذا الواقع تنامي مخاوف النخبة الحاكمة بشأن تأثيرات عزلة إيران نتيجة الأزمة النووية.

تراجعت مكانة إيران في منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) نتيجة المأزق الذي تواجهه طهران بسبب برنامجها النووي. ومن المتوقع أن تواصل تراجعها خلال السنوات المقبل، في حال استمرت مقاطعة الغرب لقطاع الطاقة الإيراني، الذي يبدو بأمس الحاجة إلى التحديث، ولم تحل عقد الأزمة النووية بطريقة ما. ولا شك أن هذه مهمة شبه مستحيلة، ما دامت إسرائيل تعرقل الدبلوماسية النووية الإيرانية-الغربية، فضلا عن دبلوماسية إقليمية أوسع تشمل مسائل عدة، منها مستقبل سورية.

وعن سورية، استخلص بعض المحللين في طهران أن عدداً من السياسيين الإسرائيليين يشاطرون طهران مخاوفها من خطر استيلاء المجاهدين على هذا البلد. فيشكل هذا الاحتمال بالتأكيد خطراً أمنياً قومياً كبيراً على إسرائيل، التي لطالما فكرت في استراتيجية "مدروسة مناهضة لإيران" تؤدي أولاً إلى الإطاحة بدمشق، تمهيداً لتغيير النظام في إيران.

لكن عيب هذه الاستراتيجية يكمن في افتراض أن إيران تشكل خطراً أكبر من الكتلة السنّية المحافظة، أو أن إسرائيل تستطيع "خلط الأوراق" بطريقة خطرة إلى هذا الحد، عابثة بالرادع الإيراني الذي يحميها من الكتلة العربية.

نتيجة لذلك، أثار الإطار العام للأزمات المتعددة في الشرق الأوسط والتبدل السريع في ميزان القوى احتمال التخفيف من حدة الصراع الإيراني-الإسرائيلي، الذي يرتبط بمسائل نووية وغير نووية.

يجب ألا ننسى أيضا أن جذور قضية إيران-كونترا في ثمانينيات القرن الماضي، حين حضت إسرائيل واشنطن على مد إيران بالصواريخ لتحول دون انتصار العراق، تعود إلى الحسابات الباردة لميزان القوى الإقليمي. ولا تخلو هذه الحادثة بالتحديد من وجهات نظر قيمة من "المعضلات السياسية" التي تواجهها طهران وتل أبيب كلتاهما اليوم. ومن هذه المعضلات كيفية الحفاظ على "خطوطهما الحمراء" في وجه هجوم حركة سلفية تتعارض أساساً مع الشيعة كما مع الصهيونية.

يُعتبر "الخط الإيراني الأحمر" بشأن إسرائيل عقائدياً في المقام الأول، وقد شكل سمة ميزت هوية النظام طوال السنوات الأربع والثلاثين الماضية، منذ ولادة الجمهورية الإسلامية. أما على صعيد الأمن القومي، فلا تشكل إسرائيل عقبة كبيرة، نظراً إلى بعدها عن إيران وانشغال هذه الأخيرة بمخاوف الأمن القومي الأكثر إلحاحا في العراق، أفغانستان، الخليج العربي، والقوقاز. حتى إن الكثير من محللي السياسة الإيرانية يعتبرون إسرائيل مسألة "خارج المنطقة".

بكلمات أخرى، ثمة "عدم توافق" بين المتطلبات العقائدية ودواعي الأمن القومي في المسألة الإسرائيلية، "عدم توافق" لم يعد بإمكان صانعي السياسات تجاهله في طهران. فيتوق صانعو السياسات هؤلاء إلى إنهاء الأزمة النووية ووضع البلد مجدداً على درب التقدم الاقتصادي، نظراً إلى التقارير القاتمة عن أن ثلث الخطة الاقتصادية الرابعة فحسب قد طُبق.

لا شك أن اقتراحا بشأن تحسين إيران موقفها المتشدد المناهض لإسرائيل يُعتبر مقلقاً من الناحية العقائدية، وقد يؤدي إلى خلافات داخلية. وإن كان هذا الاقتراح مجرد مناورة "تكتيكية" تقتصر على السباق الرئاسي، فمن المستبعد أن تؤدي إلى أي تغيير ملموس في موقف إسرائيل المعادي لإيران، الذي تعكسه الحكومات الغربية طوعاً. ولكن إن كان إشارة إلى إعادة تفكير استراتيجية من الجانب الإيراني، فقد يترتب عليه عندئذٍ تأثيرات عدة في الداخل والمنطقة، خصوصاً بين حلفاء إيران اللبنانيين، ما يفرض توافر عمل توازن دقيق.

أخبر محلل سياسي في طهران الكاتب، طالباً عدم ذكر اسمه، أن رد فعل إسرائيل تجاه "محاولات طهران هذه لجس النبض" بالغ الأهمية. وأضاف: "إذا أرسلت إسرائيل الإشارة الصحيحة، يدرك السياسيون الإيرانيون عندئذٍ أن ثمة ضوءاً في آخر النفق". كذلك أكد أن "التهديدات المتواصلة" أدت إلى "نمط تفكير أشبه بحصار في إيران، وهذا غير صحي البتة".

في المقابل، يستطيع السياسيون الإسرائيليون، إذا رغبوا، أن يطلبوا من أصدقائهم الأتراك التوسط بينهم وبين طهران، خصوصا أن تركيا تشكل مع إيران وإسرائيل الدول غير العربية الثلاث الوحيدة في الشرق الأوسط. وهكذا ينشأ حوار مهم غير مباشر بين طهران وتل أبيب يتناول مسائل مهمة، مثل مستقبل سورية، ويشكل جزءاً من رزمة من الجهود الحثيثة لمنع سقوط دمشق في أيدي الإسلاميين السنّة الأصوليين.

لا شك أن هذه التغييرات الجذرية في السياسة الخارجية تتطلب "إعادة رسم واعية" لما يشكل المخاطر الأكبر التي تهدد مصالح الأمن القومي في كلا البلدين، خصوصا منذ أن حول السياسيون اليمينيون الإسرائيليون إيران إلى "الخطر الوجودي الأكبر" الذي تواجهه إسرائيل. وهكذا تكون رسالة رفسنجاني والآخرين في إيران أن الوقت قد حان كي تعيد إسرائيل النظر في هذه الخلاصة غير الملائمة.