من الصعب أحياناً كثيرة فهم النقاش الذي يدور بشأن الشعر العربي الحديث حالياً، ثم إنني لا أفهم لماذا كلما جدّ نقاش بشأن الشعر العربي الحديث وقصيدة النثر، يتم في أغلب الأحيان تكرار أوليات الخطاب الذي طُرح مراراً بأشكال مختلفة، كأننا بذلك نلغي ذاكرة شاسعة وتجارب بالغة الأهمية إذا نُظر إليها في سياقها التاريخي، منذ «جماعة الخبز والحرية» بمصر في الأربعينيات إلى مجلتي شعر وحوار وشعراء كأورخان ميسّر، وتوفيق صايغ، ومحمد الماغوط، وانسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، حتى حسين مردان في ما يتعلق بقصيدة النثر على الأقل، وها هو يطلع علينا أحمد المعطي حجازي بكتابه «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء»، إمعاناً في السخرية من قصيدة النثر.

Ad

إني أتساءل ببساطة شديدة ونحن في الألفية الثالثة وتجارب استنساخ الكائن الحي: ألن ننتهي مرة واحدة وإلى الأبد من إعادة تكرار مفاهيم الوزن والقافية وعمود الشعر... الخ؟

شخصياً أرى المسألة كالتالي: لقد رسخت قصيدة النثر منذ الستينيات حتى اللحظة الراهنة وعبر حقول واتجاهات وأشكال وأساليب تناول مختلفة، ملامحها التعبيرية، ولم يحدث هذا بالطبع من دون المرور بمصادمات عنيفة في أغلب الأحيان مع منظومة الأشكال التقليدية السائدة حينئذ، وفي تقديري لم يعُد مهماً الآن التساؤل عن مرجعية لشعرية قصيدة النثر، سواء أكانت هذه المرجعية تتعلق بـ«الآخر» أي الغرب، أم بعض أشكال التعبير القديمة عند المتصوفة، بل ينبغي النظر الى الشعرية الجديدة في إطار منجزها الإبداعي الراهن.

ثم إن التشكيك في شعرية قصيدة النثر هو من باب النقاش غير الخلّاق، إذ إن مفهوم الشعرية نفسه قد اتسع وشمل أشكالاً تعبيرية أخرى كالسينما والمسرح، بحيث يمكن الحديث الآن عن السينما الشعرية كما عند تاركوفسكي أو بريسون، أو بيرغمان أو في المسرح كما عند المسرحي البولندي كانتور والإسباني آرابال.

يصعب أحياناً فهم هذا النقاش الذي يبدو أنه يتجاوز حدود ثنائية الوزن والنثر إلى بنية وتركيب المجتمع العربي كله، الذي لا يرى سوى ثنائيات لا حصر لها.

لقد كانت القصيدة العربية السائدة في أغلب نماذجها شكلاً متعالياً على الذات والعالم، واتسمت بمطلقات ذات طابع يقيني، لكن قصيدة النثر حالياً لم تعُد بحاجة الى آلية دفاع عن نفسها، إذ يكفي أن نتأمل في المشهد الشعري المعاصر لكي ندرك مدى ثراء المنجز الذي اجترحته هذه التجربة والأسماء في هذا المجال ليست خافية على أحد.

كما أن النماذج الإبداعية في قصيدة النثر هي الآن في مصاف الطليعة الشعرية في عالمنا العربي، طبعاً هذا لا يعني أن كل قصيدة نثر هي قصيدة جيدة وناجحة بالضرورة، استناداً إلى «شكلها» فحسب إذ لا بد أن تتوافر عند الشاعر عناصر تتعلق بالموهبة وتوظيف اللغة والتأمل والقدرة على التصعيد الشعري... الخ.

لم يكتب النقاد إلا في ما ندر عن التجارب الشعرية الراهنة، وربما كان عليهم قراءة النص الشعري بنوع من الانفتاح الحضاري والفهم المعرفي، وبروح عالية وأدوات استقصاء جديدة، فالشعر الراهن ليس واحداً بل هو مركّب ومتنوّع ومرتبط بإيقاع الحياة الحديثة بكل إشكالياتها، إن أي قراءة جادة بحاجة بالضرورة إلى أدوات كشف مغايرة لاستبطان الجمالية الشعرية الجديدة، لا الاستناد إلى عناصر شكلية في النص فحسب.