في شهر مارس عام 2011 وقبل ساعات من تصويت مجلس الأمن في الأمم المتحدة، وعد الحاكم المستبد الليبي معمر القذافي المواطنين في بنغازي (شعبه) أنه "قادم الليلة" وأنه "لن يرحمهم أو يشفق عليهم". فشكل تصريحه الوقح هذا إشارة إلى اعتداء وشيك قد يؤدي إلى حصيلة كبيرة من القتلى بين المدنيين.

ولكن بعد تهديدات القذافي مباشرة، امتنعت روسيا والصين، دولتان دائمتا العضوية في مجلس الأمن تديرهما حكومتان مستبدتان، عن التصويت على القرار 1973، الذي سمح باستخدام "كل التدابير الضرورية لحماية المدنيين... بما فيهم أهل بنغازي". (امتنعت ألمانيا، والبرازيل، والهند، التي كانت آنذاك من الدول الأعضاء الدورية في مجلس الأمن، عن التصويت أيضاً، كل منها لأسبابها الخاصة).

Ad

عندما نرجع بالذاكرة إلى تلك الحوادث، نلاحظ أن روسيا ندمت على الأرجح لأنها امتنعت عن التصويت. ففي شهر يناير عام 2012، أخبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف التلفزيون الأسترالي في حديث معه عن الحرب الأهلي المتفاقمة في سورية أن "المجتمع الدولي انحاز للأسف إلى أحد الطرفين في ليبيا. ولن نرضى أن يسمح مجلس الأمن بتكرار ما حصل في ليبيا" في سورية.

يبدو هذا غريباً لأن "ما حصل في ليبيا" كان جيداً نسبياً: حملة جوية متواصلة شنها حلف شمال الأطلسي (الناتو) حمت بدون أدنى شك عدداً من المدنيين يفوق بأشواط مَن آذتهم على الأرجح. كذلك أضعفت قوات القذافي وعجلت من سقوطه. علاوة على ذلك، أعطت العملية الليبية شرعية لمن يدعمون "مسؤولية الحماية"، وهي تفويض صدر عن مجلس الأمن عام 2006 دعا كل الأطراف المشاركة في صراع مسلح إلى تحمل مسؤولية حماية المدنيين، علماً أن هذا التفويض مُرر بالإجماع (15 صوتاً مقابل صفر).

يبدو أن مهمة حلف شمال الأطلسي في ليبيا بدلت حسابات موسكو تبديلاً جذرياً. فقد بددت معارضة روسيا الحازمة لأي قرار يسمح بتنفيذ عمل عسكري ضد عميلها، نظام الأسد، آمال الأميركيين، والفرنسيين، والبريطانيين بتدخل "قانوني". ولم يقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عند هذا الحد، مشيراً إلى عدم شرعية أي عمل عسكري من دون الحصول أولاً على تفويض من الأمم المتحدة:

"يُعتبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بموجب القانون الدولي الهيئة الوحيدة التي يحق لها السماح باستخدام السلاح ضد دولة ذات سيادة. وبذلك تكون أي أسباب أو وسائل أخرى تُستخدم لتبرير اللجوء إلى القوة ضد دول مستقلة وذات سيادة غير مقبولة، ولا تصنيف لها غير أنها عدوان".

لا شك في أن هذا تصريح غني بالإشارات والمدلولات، خصوصاً أنه صدر عن رجل اجتاح الجمهورية الجورجية عام 2008 مستخدماً نحو 9 آلاف جندي و350 دبابة، مع أنه لم يحصل حتى على ما يشبه القرار من مجلس الأمن. ولكن إذا أظهرت حسابات بوتين أن الدفاع عن دور مجلس الأمن الطريقة الفضلى لحماية روسيا من أي تدخل، تشكل هذه الخطوة في رأيه، إذن ورقته الرابحة.

بكلمات أخرى، آن الأوان لكي نقر بأن مجلس الأمن في الأمم المتحدة فقَدَ فاعليته رسمياً في القضايا الإنسانية والأمنية وقضايا الحوكمة الجيدة والحرية.

يدرك باراك أوباما هذا الواقع بالتأكيد. وهذه مشكلة لأن الرئيس الأميركي يؤمن بـ"شرعية" العمل الدولي. فقد دعم تفويض الأمم المتحدة للعملية الليبية بقرارات أيدت هذا العمل صدرت عن جامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية. يذكر ريان ليزا من مجلة New Yorker أن هذا لم يشكل "قيادة من الخلف" فحسب، بل يُعتبر أيضاً "منح شرعية دولية لتدخل عسكري قد يكون مثيراً للجدل"، أو ما أسماه جون كيري في المناظرة الرئاسية عام 2004 ضد جورج بوش "اجتياز الاختبار العالمي"... عبارة حولها بوش في الحال إلى هجوم سياسي.

من الواضح أن الرئيس الأميركي يتمسك بهذا التقليد الدولي التقدمي.

بما أن أوباما لا يستطيع الحصول على تفويض قانوني من الأمم المتحدة، يحتاج إلى هيئة أخرى تعطي الشرعية لأي ضربة توجه إلى سورية. من الناحية القانونية، لا يُعتبر أوباما مضطراً إلى اتخاذ خطوة مماثلة لأن قانون صلاحيات الحرب لعام 1973 يمنح الرئيس سلطة شن عمليات عسكرية محدودة في الخارج من دون موافقة الكونغرس. ولكن إذا أخذنا الشرعية في الاعتبار، نرى أن موافقة مشرعي الولايات المتحدة تمنحه غطاء.

لكن الكونغرس، وخصوصاً مجلس النواب، هيئة شعبوية مصممة لتمثل إرادة الشعب. أخبر جورج إدواردز، بروفسور متخصص في العلوم السياسية في جامعة Texas AandM، صحيفة "واشنطن بوست" أن الشعب لا يود التدخل في هذا الصراع. ولكن بانتظار ما قد تسفر عنه المناورات الدبلوماسية الأخيرة، نرى أن أعضاء من كلا الحزبين يستعدون للتصويت وفق إرادة الشعب.

بما أن مجلس الأمن يرزح تحت شوائبه الكثيرة وميول الكونغرس الشعبوية تبدو أقوى من أن يوافق على أي تدخل، يجب أن تسعى الولايات المتحدة إلى تشكيل هيئة جديدة تتولى معالجة المسائل الأمنية والإنسانية وقضايا الحوكمة: الأمم المتحدة الديمقراطية.

ثمة سابقة لهيئة مماثلة. فقد أُسست منظمة "مجتمع الديمقراطيات" عام 2000 بمساعدة وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت. ولا شك في أن هذه الخطوة تستحق العناء، إلا أنها تصطدم بمشكلتين رئيستين:

أولا، يضم المجلس الحاكم في هذه المنظمة الكثير من الدول التي لا تُعتبر ديمقراطية بمفهومها الكامل، كما تحدده الانتخابات الحرة والنزيهة وعملية انتقال السلطة سلمياً ومؤسسات المجتمع المدني القوية. تصنف "بيت الحرية" (Freedom House)، مؤسسة جيدة تراقب أنظمة الحكم، والمغرب، ونيجيريا، والمكسيك، والفلبين، دول أعضاء في هذا المجلس، بأنها أكثر سلبية من أن تُعتبر ديمقراطية بحتة.

ثانياً، يُعتبر تفويض "مجتمع الديمقراطيات" ضيقاً جداً ويركز على "عملية انتقال السلطة ديمقراطياً" و"سد الفجوة بين مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان العالمية وتطبيقها".

في عام 2007، أثار السيناتور جون ماكين فكرة "رابطة الديمقراطيات" خلال جولته الانتخابية، قائلا "إنها تستطيع العمل بفاعلية في المجالات التي تخفق فيها الأمم المتحدة"، من دون أن يقدم المزيد من التفاصيل. لعل ماكين كان ينظر إلى المستقبل، وإن جاء طرحه هذا سابقاً لأوانه ببضع سنوات. لم ترسم روسيا بعد سياسة متشددة معارضة للتدخل. فقد اكتفت بالامتناع عن التصويت في المسألة الليبية، ودعمت قراراً أيد عام 2012 التدخل في مالي، مع أن موسكو عبرت عن تحفظات كثيرة بشأن تحول التدخل إلى "عمل معتاد".

يجب أن تضم الأمم المتحدة الديمقراطية دول العالم الأكثر حرية فحسب: تلك التي اتبعت منذ عقود تقاليد إجراء انتخابات حرة ونزيهة، تشكيل مؤسسات مدنية قوية، وانتقال السلطة سلمياً، وتقديم الحماية للجميع. ومن السهل تحديد الدول التي تندرج في هذه اللائحة.

من الضروري أن تعمل الأمم المتحدة الديمقراطية على صون الحريات والانفتاح وحماية الأصوات التي لا تستطيع التعبير عن آرائها في دول غير ديمقراطية: تشمل هذه الفئة عادة النساء والفتيات، والأقليات الإثنية، والمدنيين العالقين وسط الصراعات الدموية. وتُصدر هذه المنظمة قرارات تدعم المؤسسات الديمقراطية وتحمي المدنيين. وفي الحالات القصوى، تتيح اللجوء إلى القوة العسكرية بهدف حماية المدنيين خلال القتال (مع أن كل أمة ستحتفظ بالتأكيد بحق استعمال القوة دفاعاً عن النفس).

فكر في هذه المسألة على هذا النحو: ستتمتع هيئة تضم كل دول العالم الديمقراطية بشرعية كبيرة تسهل دعم التدخلات الضرورية، كما في سورية وليبيا، وتصعب العمليات التي تبدو مثيرة للجدل، مثل غزو العراق.

وبما أنها منظمة مؤلفة من حكومات ديمقراطية بحق، فستدور فيها المناظرات بشأن استخدام القوة في مكانها الصحيح: في مجلس يضم مسؤولين منتخبين وطنياً يستطيع الموازنة بفاعلية بين حاجات الشعوب وحاجات الحرية حول العالم.