أكثر الأحاسيس ألماً هو ذلك الذي ينتاب المرء بالغربة وهو يدخل بلده، كان ذلك هو الإحساس الطاغي ليس عليّ فحسب، ولكن على كثير من المصريين أيضاً سواء من يعيشون داخلها أو خارجها ويزورونها. إحساس الغربة داخل الوطن كان إحساساً طاغياً مؤلماً، ولكن المصريين تمكنوا من التغلب عليه عندما انتصروا في معركتهم واستعادوا وطنهم المخطوف على أيدي جماعة أعضاؤها من المصريين، ولكن أهدافها لم تكن يوماً تصب في حدود الوطن، بل كانوا يتجاوزون إلى آفاق أمة هم وحدهم يعتقدون فيها ويحلمون بها بأي ثمن.

Ad

هذه المرة عندما عدت إلى القاهرة شعرت بهواء مختلف ووجوه مختلفة، شعرت أنني عدت إلى وطن اعتقدت أنني فقدته إلى الأبد، قد تكون الأماكن كما هي، وقد تكون المشاكل بنفس حدتها، لكن شيئاً ما تغير فغير الإحساس بالناس والوطن، وفي وقت قياسي تحولت مصر من بلد طارد لأهله إلى بلد يسعى أهله للبقاء فيه والعودة إليه.

تحتاج مصر إلى ما يدعون إليه الآن بشكل ملح من مصالحة، هذه المصالحة هي عنصر رئيسي لاستعادة ملامح الوطن والعودة إلى الانضمام إلى فلك الدول المدنية المتصالح أبناؤها والمتفق على ملامح شخصيتها وعناصر تكوينها، لكن يظل صوت صراخ جماعة الإخوان وأتباعهم للمطالبة بعودة مرسي أحد أهم العوائق الرئيسية للوصول إلى تلك المصالحة، فاستمرارهم في حالة العناد الشديدة والإنكار التام ستؤدي بهم إلى خسارة ما قد يكون قد تبقى لهم من رصيد عند المصريين، تسببت هذه الحالة من العناد والإنكار في الإطاحة بهم من السلطة التي حلموا بها أكثر من ثلاثين عاماً، وتسببت في كفر معظم المصريين بهم، واستمرارهم سيغلق الباب أمام عودتهم إلى نسيج المجتمع المصري وفقا لطبيعته وقوانينه.

والخطوة الأولى المطلوبة من الجماعة وتوابعها الآن هي إلقاء السلاح الذي يتحصنون به والتوقف عن إفساد حياة الناس، ووقف العمليات الإرهابية التي بدأت تطل برأسها، هذا السلوك لن يؤدي إلا إلى تعقيد الموقف وجعل التعايش أقرب إلى الاستحالة بين الجماعة وبين بقية أهل مصر.

والأكيد أن شعار المصالحة الوطنية، يبقى فارغاً من مضمونه، إذا لم تسبقه المصارحة حيث يمكن أن يكون كلمة حق يراد بها باطل، ففي تجربة جنوب إفريقيا، اعترف الجناة أمام الجمهور، وأمام ضحاياهم (إن كانوا أحياء)، وذوي الضحايا، وطلبوا الصفح والسماح والعفو منهم، وقد يكون ذلك أحد المداخل المهمة لتهيئة الأوضاع لمصالحة حقيقية، وهذا لا يقتصر فقط على جماعة الإخوان التي كانت حاكمة، بل على كل من مارس عملاً عاماً وشاب موقفه تساؤلات، ينبغي حسم هذه الشوائب ليبدأ الجميع العيش في ظل مجتمع تخلص من عقده المتبادلة بين أبنائه.

وقد يكون من المناسب استعادة حكاية مفوضية الحقيقة والمصالحة Truth and Reconciliation Commission (TRC) التي كانت هيئة لاستعادة العدالة على شكل محكمة شُكلت في جنوب إفريقيا بعد إلغاء نظام الفصل العنصري، الشهود الذين كانوا ضحايا لانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان تمت دعوتهم للإدلاء بشهاداتهم حول تجاربهم، واختير بعضهم لجلسات إفادة عامة (مذاعة).

مرتكبو العنف كان بإمكانهم الإدلاء بشهاداتهم وطلب العفو من الملاحقة المدنية والجنائية، وكانت الشهادات تتم أمام اللجنة المنعقدة بهيئة محكمة ويقوم مدعون بجلب ضحايا ليقدموا شهادات مضادة، بغرض الوصول إلى الحقيقة.

وكان بإمكان اللجنة منح عفو للمتهمين ما لم يرتكبوا جنايات، وتقرر اللجنة موعد منح الأهلية السياسية التي تتيح للمتهم مزاولة حقوقه السياسية، التي قد تكون مباشرة بعد المحاكمة أو بعد بضع سنين أو يُحرم منها.

هذه التجربة التي أسس لها الزعيم الإفريقي نلسون مانديلا، وتولاها القس ديزموند توتو - الحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 1984 - ورفاقه، الغاية منها كانت ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان للبناء للمستقبل، من دون إجراءات عقابية على تجاوزات الماضي. الحصيلة جاءت إيجابية جداً حتى الآن، ومنها انطلقت جنوب إفريقيا على طريق الديمقراطية وتداول السلطة.

مفوضية الحقيقة والمصالحة لعبت دوراً محورياً في إعادة اللحمة الوطنية دون إهدار لحقوق ضحايا النظام السابق ودون حرمان الطبقة الحاكمة السابقة من فرصة إعادة تأهيلها.

وقد يكون التعبير الأخير دقيقاً فيما يتعلق بتيار الإسلام السياسي، وعلى رأسه جماعة الإخوان، أظن أن حاجتهم إلى تأهيل متعدد الجوانب قد يكون خطوة مهمة ينبغي اتخاذها قبل بدء مشروع المصالحة. سلوك الجماعة وتابعوها خلال فترة حكمهم والأسابيع التالية للتخلص منهم وحتى الآن يثبت أنهم فعلاً في حاجة إلى إعادة تأهيل ذهني ونفسي وقيمي.