تأملوا جيداً تتابع الأحداث التالية:

Ad

* خلاف حاد نشأ خلف الكواليس بين الرئيس السادات والفريق الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري... وكالعادة لا يطمئن الرئيس بعد هذا الخلاف إلى بقاء الليثي في منصبه، فيقرر نقله إلى درجة سفير بوزارة الخارجية... وكان قليلون يعرفون هذا الخلاف، أكثرهم من داخل المطبخ السياسي أو القصر الرئاسي!

 

* بعد ذلك بعام وأشهر قليلة يأمر السادات بتعيين الليثي سفيراً لمصر في اليونان... وبالفعل يسافر الليثي مع أسرته إلى اليونان ويتوقف في لندن للعلاج... ولأن الفحص الطبي والعلاج لن يستغرقا غير يومين أو ثلاثة، تتم دعوة الليثي ناصف للإقامة في شقة تتبع رئاسة الجمهورية... وكأن هذه الشقة كانت كلمة السر في نهاية حياة أحد أشهر العسكريين في مصر!...

ففي اليوم التالي مباشرة لمبيت الليثي في هذه الشقة التي تقع في الطابق الحادي عشر من «ستيوارت تاور»، هذا البرج المشؤوم والمشبوه، يعثر البوليس الإنكليزي على جثته أسفله!

* وقبل أن يتفوه مخلوق بكلمة تصرخ زوجته في وجه ممثلي القنصلية المصرية في لندن قائلة: السادات قتله!

التاسعة صباحاً

الحادث كان في غاية الغرابة... فالجثة تم العثور عليها وفي قدمي الليثي ناصف الشبشب الذي كان يرتديه حينما أخبر زوجته الروسية سوفيكة أنه سيدخل الحمام، ثم اختفى، ولم تظهر جثته إلا بعد ساعتين. كيف ظل هذا الشبشب في قدمي الرجل وهو يسقط من الشقة، أي من الدور الحادي عشر بحساب البدروم إلى طوابق العمارة، أو من الدور العاشر إذا لم يحتسب البدروم؟ هل يمكن أن يسقط إنسان من هذا الارتفاع الشاهق ويظل الشبشب ملتصقاً بقدميه؟

وكالعادة حاولت المصادر الرسمية التأكيد على أن الحادث انتحار، وهو نفس السيناريو الرديء الذي خرجوا به في مصر لللواء علي شفيق والفنانة سعاد حسني والديبلوماسي أشرف مروان... وها هو الآن الليثي ناصف... وكأن الشخصيات العامة المصرية تذهب دائماً إلى لندن في رحلة انتحار وخلاص من الحياة! إنه المكان نفسه الذي يتحول إلى مسرح لهذه الحوادث كلها... برج ستيوارت تاور. والأسلوب نفسه الذي يتبعه البوليس الإنكليزي مع كل حادث، وكأنه ينفذ اتفاقية بينه وبين إحدى الجهات التي يهمها التخلص من أشخاص بعينهم. المهم أن ترتب هذه الجهة وصولهم إلى لندن... وهناك ينفذ الاغتيال... ويتولى البوليس الإنكليزي باقي المهمة؟ لكن كيف وقع الحادث؟

تقول زوجة الليثي ناصف إنه استيقظ في الصباح المبكر وأدى صلاة الصبح ثم فتح المصحف وقرأ القرآن الكريم... بعد ذلك تناول إفطاره وجلس إلى جوارها يشاهد برامج التلفزيون. وفي تمام التاسعة صباحاً نهض من مقعده وأخبر زوجته أنه سيذهب إلى الحمام.

تضيف الزوجة في التحقيقات قائلة:

* مضت أكثر من ساعة والليثي لم يظهر، ظننت أنه نزل ليتريض كعادته في الصباح ثم يعود... كان توقعي أنه بعدما خرج من الحمام دخل حجرته وارتدى «التريننغ سوت» و{الكوتش» ونزل إلى إحدى الحدائق القريبة من العمارة... لكني فوجئت بعد ساعتين بضابط إنكليزي يطرق بابنا ويخبرني أنه تم العثور على جثة زوجي أسفل العمارة...

 على الفور تذكرت مخاوفه الرهيبة وهمساته لي بأنه خائف من انتقام السادات الذي قد يتخلص منه ويقتله بعد الخلاف الكبير الذي نشأ بينهما في أعقاب القبض على مراكز القوى في ما سمي ثورة مايو. لا أصدق أن زوجي انتحر... كيف لشخص صلى الصبح ثم قرأ القرآن أن يقدم على هذه الجريمة ويغضب ربه؟! ثم من أين ألقى بنفسه من داخل الشقة التي لا يوجد فيها غير شرفة واحدة في الصالة، وكانت ابنتاي هدى ومنى تجلسان في الصالة منذ دخل والدهما الحمام وحتى جاءنا الخبر المفجع بالعثور على جثته أسفل العمارة؟ أي عقل يصدق رواية الانتحار من نافذة لم يقترب منها المنتحر؟

سر الخلاف

قبل أن نستطرد، وما دامت ترددت حكاية الخلاف بين السادات والليثي والتي كانت سبباً في غضب السادات عليه... قررنا أن نعرف سبب هذا الخلاف من أحد كبار المسؤولين، وكان قريباً من قلب الليثي من ناحية ومسؤولاً برئاسة الجمهورية من ناحية أخرى... إنه صلاح الشاهد كبير أمناء رئاسة الجمهورية الذي استمرّ في هذا المنصب في عهد الرؤساء عبد الناصر ثم السادات ثم حسني مبارك في سنوات حكمه الأولى.

قال لي صلاح الشاهد بالحرف الواحد:

«... عندما ظن السادات أن كل من حوله يتآمرون عليه فور توليه الحكم، قرر أن يعتقلهم جميعاً ليرتّب البيت من الداخل، ويمسك بأدوات الحكم كافة، فاستدعى صديقه الفريق الليثي ناصف وأمره باعتقال كل مراكز القوى... لكن الليثي عارض القرار بشدة وصارح الرئيس بأنه كإنسان لا يستطيع أن يلقي القبض على أصدقائه ومحبيه لأن بينه وبين المطلوب القبض عليهم خبز وملح... وطلب الليثي إعفاءه من هذه المهمة... لكن السادات استخدم ذكاءه وحيله في إقناع الليثي بأن هذا الإجراء موقت ومدته قصيرة للغاية من أجل حماية الوطن، وأنه لن يقدمهم إلى المحاكمات ولن يحبس أحداً منهم... وسأله الليثي: هذا وعد يا سيادة الرئيس؟ رد عليه الرئيس بكل ثقة: «طبعاً... وعد يا ليثي... وسوف ترى».

 وبالفعل تحركت دبابات الحرس الجمهوري في جنح الليل إلى بيوت معارضي السادات، وتم اعتقالهم جميعاً خلال ساعات قليلة. كان الليثي في غاية الألم النفسي وهو ينفذ هذا الإجراء. هكذا أخبرني بنفسه، لكن عزاءه الوحيد كما صارحني وقتها، هو وعد السادات بأن يفرج عنهم في أسرع وقت ومن دون محاكمات!... لكن حدث ما لم يتوقعه الليثي... خرجت وسائل الإعلام تعلن على لسان الرئيس السادات أنه أطاح بمراكز القوى وأن ما حدث ثورة جديدة أطلق عليها ثورة مايو. ثم فوجئ الفريق الليثي بأن السادات تراجع عن وعده وأمر بتقديم المعتقلين إلى المحاكمات!

 حاول الليثي حتى منتصف 1972 أن يذّكر السادات بوعده، ويرجوه أن يأمر بالإعفاء عن هؤلاء المتهمين الذين تولى هو القبض عليهم وهم جميعاً من أصدقائه المقربين... لكن السادات ردّ عليه بحسم بأن القانون لا بد من أن يأخذ مجراه! وهنا احتدّ الفريق الليثي للمرة الأولى على الرئيس السادات وطلب منه أن يعفيه من منصبه كقائد للحرس الجمهوري... ورد السادات عليه بسرعة: «... وماله يا ليثي... لكنك ستعين في وزارة الخارجية بدرجة سفير!».

وفي أغسطس 1973 عينه السادات سفيراً في اليونان... وكنت قابلت الليثي في هذا الوقت ففوجئت بأنه مريض بعد خلافه الحاد مع السادات، ولهذا قرر الذهاب إلى لندن أولاً لإجراء فحوصات سريعة ثم إكمال رحلته إلى أثينا... لكن حدث ما حدث»...

* ما رأيك بقصة الانتحار؟

** (من دون تردد أجاب صلاح الشاهد): أرفضها تماماً!

* هل قتله السادات؟!

** لا أستطيع الجزم بذلك... الله أعلم؟

* إذا كان الليثي لم ينتحر... ولم يقتله السادات... فكيف عثروا على جثته أسفل العمارة... ما تفسيرك؟!

** ثمة رواية أخرى تقول إن الأدوية التي كان الليثي يتعاطاها تسبب اختلالا في التوازن وعدم اتزان الجسم، ولأنه طويل القامة سقط من الشرفة وهو في حالة دوار؟!

* لكن ابنتيه كانتا جالستين أمام الشرفة... ولم يقترب الليثي منها أبداً، كما أنهم عثروا عليه ميتاً والشبشب ملتصق بقدميه... ولم ينزف جسمه نقطة دم واحدة، وهذا ينفي أنه سقط من الشرفة... ما تفسيرك؟!

* لا أعلم... كل ما أعرفه أن الليثي لا ينتحر أبداً، وأنه كان خائفاً من انتقام السادات... لكني لا أعرف ما حدث في لندن على وجه التحديد.

 

شهود الحادث

كان الدكتور مصطفى الفقي يشغل منصب القائم بأعمال القنصل المصري في لندن آنذاك... وقدم شهادته عن الحادث... لكن قبل أن نتعرض لها نقدم شهادة الكاتب الصحافي الكبير عادل حمودة، وقد كان في لندن وحقق في الحادث، والتقى زوجة الفريق الليثي، وهي بالمناسبة مسلمة تتحدر من أصول تركية... يقول عادل حمودة:

... كان ذلك صباح 24 أغسطس سنة 1973، كنت أول من حقق في هذه الواقعة ونشرتها بكل مستنداتها... الليثي ناصف الذي ولد عام 1922 وتخرّج في الكلية الحربية عام 1940، اختاره عبد الناصر لتأسيس الحرس الجمهوري وقيادته تقديراً لثقته به... وكلفه السادات بالقبض على رموز النظام في 15 مايو 1971... وقد روت لي ما جرى السيدة شوفيكة قبل سنوات في شقتها بعمارة ليبون الشهيرة. إنها حفيدة أمير قوقازي كان مسؤولاً عن التفتيش على أعمال الأسرة المالكة في مصر في عهد السلطان عبد الحميد، آخر سلاطين الدولة العثمانية، وبقي في مصر بعد انقلاب كمال أتاتورك وتوليه السلطة في تركيا. التقت السيدة شوفيكة بضابط شاب هو الليثي ناصف في صباح 23 يوليو 1952 حينما جاء ليقبض على أحد أقاربها وهو إسمايل فريد، فوقعت في هواه وتزوجته، وأنجبت منه ابنتين سماهما على اسمي ابنتي عبد الناصر هدى ومنى، وبعدما استقر السادات في السلطة بنحو عام منح الليثي ناصف رتبة فريق، وأخرجه من الحرس الجمهوري وعينه مستشاراً عسكرياً في رئاسة الجمهورية، وظل في موقعه بلا سلطات فعلية حتى أبريل 1973 حينما عين سفيراً ورشح للسفر إلى اليونان...

 وقبل أن يتسلم عمله في أثينا سافر إلى لندن للعلاج، بواسطة محمود نور الدين الذي كان موظفاً في السفارة المصرية هناك، قبل أن ينقلب على أنور السادات ويشكل تنظيم «ثورة مصر» ويدخل السجن... وسكن في شقة بالدور العاشر من ستيوارت تاور أثناء فترة علاجه.. وهناك كان المسرح مجهزاً لما هو قادم؟!... ففي ذلك الصباح الأخير – يستطرد عادل حمودة – استيقظ الليثي ناصف هو وزوجته وراحا يقرآن القرآن ثم صلى وتناول الفطور... وعند التاسعة قام وهو بالبيجاما والشبشب ودخل الحمام... كانت هذه المرة الأخيرة التي رأته فيها زوجته حياً... فعندما تأخر في الخروج من الحمام طرقت الزوجة الباب ثم فتحته فلم تجد زوجها... وتصورت أنه خرج ليتمشى كعادته... لكنها فوجئت بضابط من الشرطة الإنكليزية يبلغها أن زوجها سقط من دور مرتفع بعدما أصيب بدوار أفقده الوعي.

لم تقتنع الزوجة بهذه الرواية، وسيطرت عليها فكرة أن زوجها قد قتل، وأن القاتل دخل بنسخة أخرى من المفتاح ليلاً وهم نيام.. واختبأ في الخزانة «الأبلاكار» في انتظار اللحظة المناسبة، وهي لحظة خروجه من الحمام إلى حجرة النوم... في تلك اللحظة خرج القاتل من مخبئه، وسارع إلى وضع كمامة من المخدر على أنفه وهو يكتم بيديه فمه، ثم فتح باب السلم الخلفي، وخرج وهو يجره بهدوء... وبعدما تخلص منه ألقى به في عرض الطريق حتى يبدو الحادث كما وصفته الرواية الرسمية!»

يقول عادل حمودة:

«... هذا هو السيناريو الذي سمعته من عائلة الليثي ناصف، وكان واضحاً أن أصابع الاتهام أشارت إلى محمود نور الدين، لكنه سارع إلى إرسال خطاب لي من داخل سجنه – حيث كان يقضي فترة العقوبة بعد القبض عليه بتهمة محاولة قلب نظام الحكم – ونفى تلك التهمة تماماً.

د. مصطفى الفقي

وهذه شهادة الدكتور مصطفى الفقي نصاً وحرفاً:

** «في الصباح الباكر لأحد أيام صيف 1973 كنت قنصلاً لمصر بالإنابة في العاصمة البريطانية واتصل بي المرحوم الدكتور عبد الغفار خلاف المستشار الطبي للسفارة المصرية في لندن ليبلغني بسقوط الفريق الليثي ناصف، قائد الحرس الجمهوري السابق والسفير المصري المرشح لدولة اليونان، من شرفة الشقة التي يقيم فيها في برج ستيوارت بمنطقة ميدافيل، وأن الفريق قد تٌوفي بالفعل فور ارتطامه بأرض الشارع وأن البوليس يطوّق المنطقة... بدأ توافد بعض الصحافيين إرضاء للفضول الإعلامي بسبب أهمية الفريق الراحل، فتوجهت على الفور إلى مكان الحادث، وما إن وصلت وصعدت إلى الطابق الحادي عشر حيث كان يقيم حتى وجدت المشهد الحزين لزوجته وابنتيه... وكان واضحاً أن عنصر المفاجأة الأليمة قد أطاح بتوازن رفيقة حياته التي كانت تبكي بحرقة... وتطالب بدفنه بعد الاتصال بالملك حسين عاهل الأردن والملك الحسن عاهل المغرب لأنهما من سلالة النبي (صلى الله عليه وسلم)، حسبما قالت أرملة الفريق الراحل، وتضيف السيدة الحزينة أن ثمة مؤامرة أودت بحياة الفريق الليثي... ورددت كثيراً أنه تم التخلص منه بسبب اعتزازه بالرئيس عبد الناصر حتى أنه أطلق اسم هدى ومنى على ابنتيه تيمناً بابنتي الرئيس الراحل... وظلت السيدة المكلومة تتحدث بطريقة تلقائية أقرب إلى الهذيان منها إلى الكلام الواضح... عندئذ وصل السفير كمال رفعت سفير مصر في المملكة المتحدة والوزير المفوض نبيل حمدي فحاولت زوجة الفريق الراحل إجراء مكالمتين هاتفيتين مع الرباط وعمان، لكنها لم تنجح في ذلك حتى وصل ابنها البكر من زواج سابق لها والذي كان يبكي بطريقة غير مسبوقة ويقول: «الفريق هو الذي رباني بعد وفاة والدي، فهو أبي الحقيقي»... وهذا يدل على شخصية الليثي ناصف الطيبة النقية...

علمت يومها أن الفريق وأسرته انتقلوا إلى هذه الشقة قبل الحادث بيوم واحد... وقد بدأت إجراءات التحقيق في الحادث للتفرقة بين احتمالات ثلاثة.. أولها أنه سقوط لاإرادي، لأن الفريق كان يعاني ضموراً في المخ ولا يستطيع الاحتفاظ بتوازنه مع طول قامته، والاحتمال الثاني هو الانتحار، وهو احتمال يكاد يكون معدوماً لمن يعرفون الفريق وإيمانه وخلقه... أما الاحتمال الثالث فيحوم حول الشبهة الجنائية بقذف الفريق من الشقة من الدور الحادي عشر في برج عرف في ما بعد حالات مماثلة، منها سقوط الفنانة المصرية الشهيرة سعاد حسني.

 اهتم الرئيس السادات كثيراً بالحادث وكان رئيس الديوان الجمهوري السيد حافظ إسماعيل يجري اتصالات يومية معنا في لندن لمتابعة التحقيق البريطاني في الحادث... وأوفد كبير العائلة المرحوم النبوي ناصف، كما حضر الدكتور صلاح سليمان ابن اخت الفريق وهو أستاذ السمعيات الشهير بجامعة عين شمس... لكن الجانب البريطاني احتجز الجثمان قرابة أسبوعين كاملين لمزيد من التحقيقات... وعقد جلسة حضرتها في المحكمة بالنيابة عن القنصلية المصرية وجرى فيها الاستماع إلى أقوال ابنته الكبرى منى، وكانت فتاة عاقلة وهادئة... واستمع إلى أقوال شاهد عيان كان يقف في شرفة قريبة من شرفة الفريق حيث رآه وهو يترنح بجوار حافة شرفته حتى اختل توازنه وسقط مرتطماً بأرضية الشارع! عندئذ وافقت السلطات البريطانية على الإفراج عن جثمان الفريق ليدفن في وطنه عبر موكب حزين توديعاً لقائد عسكري تميزت حياته بالشرف والنزاهة واحترام الشرعية!

عموماً... مصرع الليثي بكل ما فيه من غموض وعلامات استفهام هو صفحة جديدة في تاريخ الجرائم الكاملة... لو صدقت زوجته فيما قالته وأكدته من أن زوجها مات مقتولاً».