ما يحدث اليوم في دول الثورات العربية هو انفجار الحمم البركانية المتوهجة المكبوتة المتراكمة في أعماق الأرض لعقود طويلة... ها هي تلقي بكل ما في أحشائها من انغلاقات ويقينيات وحتميات مسجونة في الماضي وأوهام التفوق والانتصار والأفضلية، فكيف لتلك الشعوب أن تتحرر بينما عقلها هو سجانها؟ وكيف لها أن ترفع شعار الحرية والكرامة فوق سيوف مغموسة بالدم سائرة للخلف لتصفية الحسابات التاريخية؟!... هي إذن مرحلة صراع الأيديولوجيات الشمولية المطلقة المنغلقة، وهو صراع فتّاك مهلك، ذلك انه يبرر القتل والعنف باسم الأيديولوجيا الدينية والمذهبية والقومية والعرقية والتاريخانية إلخ... لندور في حلقة مرعبة من العنف والعنف المضاد.

Ad

الأيديولوجيا المطلقة هي فهم العالم من منظور ضيق محنط ومحدد بأجوبة ماضوية جاهزة معلبة ثابتة شاملة، حقائقها مطلقة وأحكامها مسبقة، ثوابتها لا تمس ولا تتعرض للنقد والمساءلة، معزولة عن الواقع وتعيش حالة فصامية مع تطوراته وتحولاته، جدرانها السميكة تقف حائلاً أمام المستقبل، وعوالمها المطوقة بأسوار عالية تمنعها من رؤية الجانب الآخر، متعالية مغالية ناكرة للآخر، لأنه الباطل الناقص الضال، تريد أن تتسيد وتفرض وتعمم رأيها الأحادي بالقوة، فهي تعيش وعياً جمعياً مزيفاً بانتصارها الحتمي في نهاية التاريخ.

ونقيض الأيديولوجيا المطلقة هو الفلسفة الليبرالية التي تقوم على نفي المطلق، وهو جوهرها الفكري الذي يحتوي كل الأيديولوجيات، ويحرر كل الشموليات والقطعيات، ويؤمن بالنسبية والتعددية والتسامح، ولا يضع أجوبة ثابتة نهائية بل أسئلة مفتوحة لها قراءات متعددة ومختلفة ومتحركة، تعرض كل القضايا على مشرط النقد والتحليل والتفكيك والمراجعة، وهو فكر يناقض ويختلف عن النيوليبرالية اليمينية المؤدلجة، وهو ما يلتبس عند الكثير الذين يخلطون بين الليبرالية كآلية وفلسفة للحرية وفكر الرأسمالية المتوحشة وهيمنتها.

لم يصل العالم المتقدم إلى هذه الحقيقة إلا قبل سنوات معدودات، كان قبلها الاستقطاب بين الأيديولوجيا الاشتراكية والأيديولوجيا الرأسمالية على أشده، فكلا المعسكرين روّج لمفاهيمه السائدة الجامدة، إلا أن مرحلة جديدة بدأت بعد انهيار المعسكر الاشتراكي الشمولي وسقوط الفكر الرأسمالي المطلق، هي مرحلة نقد وتفكيك ومراجعة تلك الأيديولوجيات الجاهزة.

 في فلسفة جون راولز، على سبيل المثال، تم تحرير الأيديولوجيتين من أغلالهما، وتم تفكيك نصوصهما المقدسة عبر الليبرالية الاجتماعية التي وازنت بين الحرية والعدالة الاجتماعية، فكل ما يهم في المحصلة هو تطوير الأفكار والفلسفات التي تضع حلاً لمشاكل الواقع المعاش كحقوق الإنسان والحريات والعدالة الاجتماعية، وهي فلسفات يجب أن تكون خاضعة لأدوات النقد والمناهج العلمية المتعددة، ذلك أن المستقبل يتأثر بتطور المعرفة الإنسانية والثورات الفكرية المتراكمة التي تؤمن بنسبية الحقائق التي لا تستطيع أن تجزم بمسار التاريخ ومصيره، وتضع له نهايات حتمية وهمية، بينما هي تفسر المستقبل بأدوات الماضي وحقائقه المطلقة.

هذا ما توصل إليه العالم المتطور لاسيما الدول الأوروبية التي تجاوزت صراع الأيديولوجيات المطلقة، فتحسنت فيها أحوال الحرية والعدالة الاجتماعية، اللتين يرفع شعارهما الثوار العرب باسم الأيديولوجيات المطلقة، بينما يتم نحرهما على أرض الواقع، وحتى تعي الشعوب الثائرة أنها لن تتجاوز الماضي إلا بالثورة عليه وتعريضه وأيديولوجياته المطلقة للنقد التاريخي والقراءات المتعددة حينئذ، نستطيع أن نقول إن الربيع على الأبواب، وقد تذكرنا أنهار الدموع والدماء بأوهام حقائقنا المطلقة.