جميل أن يكون لدى المرء مبادئ يؤمن ويتمسك بها في حياته وفي تعامله مع الآخرين، والأجمل أن يكون للسياسي مبادئ يطبقها في عمله، لكن في السياسة هناك ثوابت ومتغيرات، ولذلك يجب النظر أيضا إلى الظروف والمحيط عند اتخاذ المواقف، لأن المبادئ ليست جامدة لا تتأثر بمحيطها.

Ad

 ففقهياً أكل الجيفة حرام، لكن يكون حلالاً إذا لم يلق الإنسان أكلاً غيره وكان مهدداً بالموت جوعاً، وفي السياسة لا تنفع مقولة (انظر إلى ما قيل وليس من قال) لأن أي انسياق وراء الشعارات البراقة دون النظر إلى مقاصد القائل قد يؤدي إلى نتائج عكسية وأكثر سوءا، والأمثلة كثيرة على ذلك من مختلف الحقب الزمنية.

فبنو العباس حاربوا بني أمية تحت شعار إعادة الخلافة إلى أهلها (أي الهاشميين)، لكن ما إن استلموا الحكم حتى صاروا أشد فتكا بالهاشميين أنفسهم من بني أمية، وبعد انهيار الامبراطورية الروسية، قام رئيس الحكومة الروسية المؤقتة ألكساندر كورنسكي بسجن العصابات البلشفية ثم أطلق سراحهم وزودهم بالأسلحة لحماية حكومته من محاولة الجنرال كونوروف أخذ الحكم بالقوة. لم يقم الجنرال بمحاولة الانقلاب، فقام البلاشفة المحررون بالانقلاب على كورنسكي.

وعندما تم إسقاط حكومة الشيخ ناصر المحمد بالشارع، ظن الكثيرون أن ذلك يعد إنجازاً كبيراً في المعركة ضد الفساد وخطوة على طريق الإصلاح، لكن علمتنا التجارب أن ليس كل ما يلمع ذهباً، خاصة عندما يكون رافعو راية الحق هم أصحاب باطل، فحدث العكس تماماً، وما كانت هذه الخطوة إلا خطوة في طريق الفوضى في البلد.

فأصيبت كتلة المناكفة بالغرور بعد إنجازها العظيم في فرض الأمر الواقع، وازداد ذلك الغرور بعد فوزهم بعدد كبير في انتخابات فبراير الماضي، وترجم ذلك عمليا في المجلس المبطل عبر أسلوب التهديد والوعيد والتطرف وابتزاز الوزراء لتمرير "واسطاتهم"، والذي خضع له معظم الوزراء ودفع الوزير مصطفى الشمالي ثمن عدم خضوعه لذلك الأسلوب.

كما ترجم الغرور عملياً عبر تعزيز ثقافة الاقتحام والتخريب والتطرف في التشريع، وتم كل ذلك بموافقة رئيس الوزراء والحكومة الخائفة من تكرار مصير حكومة ناصر المحمد، فكانت النتيجة هي ازدياد الفساد وليس العكس.

ولذلك، قد يبدو أن المطالبة مثلا بحكومة شعبية في دولة ما ومعارضتها في دولة أخرى تناقض، لكن ليس بالضرورة لأن ظروف كل دولة تختلف، فهي تصلح لدولة يعاني شعبها الاستبداد والظلم والحرمان من فرص العمل التي يتم توفيرها للأجنبي، وفيها معارضة مسؤولة غير طائفية ذات قيادة واضحة وحكيمة. لكنها لا تصلح لدولة ريعية بالكامل تعوّد شعبها على الترف وعدم التحلي بالمسؤولية والحصول على الخدمات والرواتب دون إنتاج، وفيها معارضة غارقة في الطائفية والعنصرية وتعكس مجتمعاً مفككاً من أي وقت مضى، ففي هذه الحالة تكون الحكومة الشعبية أشد فتكاً ودماراً بالدولة من وضعها الحالي.

ونفس المنطق يجري على تأييد الثورات على الظلم والاستبداد، فنعم لتأييد كل ثورة طاهرة نقية ذات قيادة مسؤولة وخطاب وطني بامتياز، ولا وألف لا لكل حراك طائفي تكفيري ينادي زوراً بالحرية والديمقراطية بينما يثبت على أرض الواقع أنه لا يختلف عن النظام الذي يحاربه بممارسة القتل والإرهاب.

هذه هي السياسة، حيث لا مكان للعاطفيين المنساقين وراء الشعارات، والذين لا يفكرون بتبعات المواقف السياسية التي يتخذونها، ويحاولون العيش في عالم وردي هو أبعد ما يكون عن الواقع الحقيقي.