يبيّن غوستاف لوبون أن ما يقوله الزعماء للجماهير يغزو عقلها سريعاً فتتجه إلى أن تحوله حركة وعملاً، وما يوحي به إليها ترفعه إلى مصاف المثال ثم تندفع به، في صورة إرادية، إلى التضحية بالنفس. إنها لا تعرف غير العنف الحاد شعوراً، فتعاطفها لا يلبث أن يصير عبادة، ولا تكاد تنفر من أمر ما حتى تسارع إلى كرهه.

Ad

وفي الحالة الجماهيرية تنخفض الطاقة على التفكير، ويذوب المغاير في المتجانس، بينما تطغى الخصائص التي تصدر عن اللاوعي. وحتى لو كانت الجماهير علمانية، تبقى لديها ردود فعل دينية، تفضي بها إلى عبادة الزعيم وإلى الخوف من بأسه والإذعان الأعمى لمشيئته، فيصبح كلامه دوغما لا تناقش، وتنشأ الرغبة إلى تعميم هذه الدوغما. أما الذين لا يشاطرون الجماهير إعجابها بكلام الزعيم فيصبحون هم الأعداء. لا جماهير من دون قائد ولا قائد من دون جماهير.

حسب المترجم هاشم صالح، فإن أهمية لوبون تكمن في أنه رفض التفسيرات القديمة للجمهور، وقدم تعريفاً أو تصوراً جديداً له. فميزة الجمهور الأساسية عند لوبون هي انصهار أفراده في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى الملكات العقلية. وهو يشبه بالمركب الكيميائي الناتج من صهر عدة عناصر مختلفة، فهي تذوب وتفقد خصائصها الأولى نتيجة التفاعل ولأجل تركيب المركب الجديد. وهذا التشبيه دليل على مدى علمية لوبون، الذي ينهض بشدة ضد آراء الباحثين الإيطاليين والفرنسيين من أمثال منافسه «تارد» والقائلين بأن الجماهير مجرمة بطبيعتها، ويقول بأنها ليست مجرمة وليست فاضلة سلفاً. وإنما هي قد تكون مجرمة ومدمرة أحياناً، وقد تكون أحياناً أخرى كريمة وبطلة تضحي من دون مصلحة. وأحياناً تكون هذا وذاك في الوقت نفسه، وبالتالي فالفكرة الشائعة عن الجماهير بأنها فقط مدمرة وتحب السلب والنهب والشغب لأجل الشغب هي فكرة خاطئة.

تنويم مغناطيسي

يعتبر لوبون أن المتغيرات التي تطرأ على الفرد المنخرط في الجمهور مشابهة تماماً لتلك التي يتعرض لها الإنسان أثناء التنويم المغناطيسي. ويمكن تلخيص نظرية لوبون حول نفسية الجماهير بالاكتشافات الثلاثة التالية: الجماهير ظاهرة اجتماعية، عملية التحريض هي التي تفسر انحلال الأفراد في الجمهور وذوبانهم فيه، القائد المحرك يمارس عملية تنويم مغناطيسي على الجماهير تماماً كما يمارسه الطبيب على المريض.

وتترتب على هذه الاكتشافات الثلاثة المبادئ العلمية التالية:

- يختلف «الجمهور النفسي» عن التجمع العادي أو العفوي للبشر في ساحة عامة مثلاً، أو على موقف حافلة. فالجمهور النفسي يملك وحدة ذهنية على عكس هذه التجمعات غير المقصودة.

- يتحرك الفرد بشكل واع ومقصود أمام الجمهور فيتحرك بشكل لاواعٍ. ذلك أن الوعي فردي تحديداً، أما اللاوعي فهو جماعي.

- الجماهير محافظة بطبيعتها رغم تظاهراتها الثورية، فهي تعيد في نهاية المطاف ما كانت قد قلبته أو دمرته. ذلك أن الماضي أقوى لديه من الحاضر بكثير، تماماً كأي شخص منوم مغناطيسياً.

- الجماهير، أياً تكن ثقافتها أو عقيدتها أو مكانتها الاجتماعية، بحاجة إلى أن تخضع لقيادة محرك. وهو لا يقنعها بالمحاجات العقلانية والمنطقية، وإنما يفرض نفسه عليها بواسطة القوة. كذلك يجذبها ويسحرها بواسطة هيبته الشخصية تماماً كما يفعل الطبيب الذي ينوم المريض مغناطيسياً.

- الدعاية ذات أساس لاعقلاني يتمثل بالعقائد الإيمانية الجماعية. ولها أداة للعمل تتمثل بالتحريض من قريب أو بعيد (أي بالعدوى). ومعظم أعمالنا ناتج من العقائد الإيمانية. أما التفكير النقدي وانعدام المشاعر اللاهبة فيشكلان عقبتين في وجه الانخراط والممارسة، ويتحقق التجاوز عن طريق التحريض والدعاية. ولهذا السبب ينبغي أن تستخدم الدعاية لغة الصور الموحية والمجازية، أو لغة الشعارات البسيطة والقاطعة التي تفرض نفسها فرضاً من دون مناقشة.

صور وشعارات

نخلص من تحليلات لوبون كافة إلى القول بأن ثمة نمطين من الفكر فقط: يستخدم الأول الفكرة المفهومية ويستخدم الثاني الفكرة المجازية أو الصورية. ويعتمد الأول على قوانين العقل والبرهان والمحاجة المنطقية، وأما الثاني فيعتمد على قوانين الذاكرة والخيال والتحريض. وأكبر خطأ يرتكبه القائد السياسي هو أن يحاول إقناع الجماهير بالوسائل العقلانية الموجهة إلى أذهان الأفراد المعزولين. فالجماهير لا تقتنع إلا بالصور الإيحائية والشعارات الحماسية والأوامر المفروضة من فوق.

وهذا لا يعني أن لوبون يقترح علينا طريقة للتلاعب بعقول الجماهير لأجل تذليلها وقيادتها كما نشاء ونشتهي، فهذا الأمر مناقض لمقصده ولمعطيات العلم. والواقع أنه لا يمكن إقناع الجمهور بفكرة ما أو بعقيدة ما إذا لم نكن مقتنعين بها سلفاً، بل ومقتنعين بها حتى درجة الهوس. ولكنه يعتقد أنه لا يمكن التوجه إلى الجماهير بشكل مختلف، فلا يمكن القيام بعمل فردي. ومن يفعل ذلك يكون جاهلاً بقوانين علم النفس، وتكون معاملته مع الجمهور وكأنه ليس جمهوراً، ما يؤدي إلى إحباط همته بدلاً من تجييشه. وقوانين علم النفس هذه هي بالنسبة إلى غوستاف لوبون بحتمية قوانين علم الاقتصاد أو الفيزياء نفسها. وإذا ما استوعبنا هذه القوانين عرفنا كيف نحكم الجماهير ونقود مخيلتها.

ويشير لوبون إلى أن على هذه المخيلة تم تأثير رجالات التاريخ الكبار، وعن طريق هذا التأثير أنجزت الأديان الكبرى والأعمال التاريخية العظيمة كالمسيحية والإسلام والبوذية وحركة الإصلاح الديني ثم الثورة الفرنسية لاحقاً. ولم يستطع أحد في العالم ولا في التاريخ أن يحكم ضد مخيلة الجماهير هذه بمن فيهم الطغاة الأكثر استبداداً. فحتى هؤلاء كانوا حريصين على إثارة مخيلة الجماهير وإلهاب حماستها عن طريق خطبهم القوية وأسطورتهم الذاتية ومعاركهم الحامية. ومن أمثالهم: نابليون أو ماو تسي تونغ أو غيرهما.