يجب ألا نفرح بانقلاب الجيش على أول رئيس مصري منتخب ديمقراطيّاً في مصر، بغض النظر عن مدى إخفاقه ومدى كرهنا جماعة الإخوان المسلمين، فلن يكون للإطاحة بمرسي أي تأثير في معالجة الإخفاقات التي أعاقت عملية انتقال السلطة الكارثية على مدى سنتين ونصف السنة، إذ يُشكّل التدخل العسكري إقراراً بإخفاق كامل الطبقة السياسية في مصر، ويدرك مَن يحتفلون اليوم على الأرجح أنهم قد يندمون قريباً على هذا الانقلاب.

من المفارقات الكثيرة خلال الأيام الماضية أن جهود المتظاهرين المصريين الأخيرة ستمكّن الجيش، على ما يبدو، رغم كل الغضب المناهض للولايات المتحدة الذي يشعرون به، ولا شك أن الجيش، لا جماعة الإخوان المسلمين، هو حليف الولايات المتحدة الأقرب في مصر. صحيح أن الأميركيين لم يدعموا علانية الانقلاب، إلا أن هذا الأخير قد يتيح لواشنطن فرصاً أكبر للتأثير في الحوادث المصرية بفاعلية.

Ad

لو أن مقاربة الولايات المتحدة لدعم العملية الديمقراطية نجحت لأدت إلى معاقبة الإخوان المسلمين على إخفاقاتهم السياسية من خلال صناديق الاقتراع. تخيل لو أن القوى التي نزلت إلى الشوارع في 30 يونيو وشاركت في التظاهرات التي أطاحت بمرسي تدفقت، بدلاً من ذلك، بالأعداد ذاتها للتصويت ضد مرشحي الإخوان المسلمين في انتخابات البرلمان. عندئذٍ، كان المجلس الجديد سيؤدي إلى أول توازن حقيقي للقوى بين مؤسسة منتخبَة في تاريخ مصر، وكان سيحرم مرسي من استغلاله شرعيته الحصرية التي منحته إياها الانتخابات، لكن عملية سنّ قانون انتخاب جديد مقبول علقت في حبال طموحات الإخوان المسلمين الغريبة والإخفاق السياسي المصري، وحتى لو توافر للمصريين مسار انتخابي يتيح لهم تحدي سلطة مرسي هذه السنة، فلن يُختبر لأنه لا يتلاءم مع التطورات الأخيرة على الأرض.

صحيح أن تركيز الولايات المتحدة على دعم عملية انتقال ديمقراطية كان في محله، ويجب عدم التراجع عنه، إلا أن واشنطن اقترفت بالتأكيد أخطاء عدة في مصر خلال السنوات الأخيرة. ولعل أكبرها عجزها عن توضيح سياستها بفاعلية للمصريين والتفاعل بشكل أوسع مع المجتمع المصري، ولا شك أن موجة المشاعر المناهضة للولايات المتحدة في الشوارع اليوم، التي تجلت بوضوح من خلال تنديد المتظاهرين بالسفيرة الأميركية آن باترسون، تبرهن هذه الإخفاقات. صحيح أن من الصعب على الولايات المتحدة الدفاع عن مواقفها في الوسط الإعلامية المصري المشحون والمتحيّز، ولكن كان على الإدارة أن تبذل جهداً أكبر للإصغاء إلى الأصوات المصرية والتفاعل مع مخاوفها، والتعبير علانية وبشكل راسخ عن مخاوفها بشأن حقوق الإنسان، المجتمع المدني، والتسامح.

نتج عن هذا الإخفاق في التواصل أفكار مغلوطة عدة، ولعل أكثرها شيوعاً وضرراً أن إدارة أوباما دعمت الإخوان المسلمين ومرسي، لكن الواقع يُظهر العكس، لربما عجز المصريون عن رؤية هذه الحقيقة عبر ضباب التحيّز السياسي المتفشي، لكن لم تَجمَع واشنطن بالإخوان المسلمين علاقة مميزة يوماً، فكم بالأحرى تحالف؟ قبلت الولايات المتحدة بمشاركة الإخوان المسلمين الديمقراطية وفوز مرسي الانتخابي لأنها أصابت في اعتبارها مشاركتهم في اللعبة السياسية خطوة ضرورية في أي عملية ديمقراطية مصرية حقيقية. إلا أن القبول بمشاركة الإخوان المسلمين السياسية لا تشكّل أحد الأخطاء الأميركية في مصر، ولا شك أن هذه المشاركة بالذات ستكون أساسية في أي قيادة سياسية جديدة قد تنشأ، فضلاً عن أنها ستضمن أن مرسي لن يسعى إلى الانتقام، ما قد يؤدي إلى أعمال قمع وحظر سياسي كتلك التي شهدناها خلال عهد مبارك، أو ربما أسوأ.

تعاملت واشنطن مع جماعة الإخوان المسلمين على اعتبار أنها القيادة المنتخبة، وأصابت في ذلك، إلا أن هذا لم يتحوّل إلى الدعم الأعمق الذي ظنه كثيرون. صحيح أن مساهمة مرسي في التوصل إلى وقف لإطلاق النار خلال صراع غزة القصير في شهر نوفمبر الماضي زادت إلى حد ما احترام واشنطن له، لأنها اعتقدت أن أسلوبه العملي سيتفوق على تفضيلاته العقائدية، لكن الشكوك المستمرة التي ساورت واشنطن حيال الإخوان المسلمين عادت لتنمو عندما أخفق مرسي وحزبه في السلطة. وهكذا تبدد أي رصيد حققه مرسي في واشنطن خلال الشتاء الماضي بسبب سعيه إلى الاستئثار بالسلطة، وكثرة التقارير عن انتهاك حقوق الإنسان، واستهداف المنظمات غير الحكومية الأجنبية.

 في تلك الأثناء اشتعل المتظاهرون المصريون في القاهرة غضباً لأن السفيرة باترسون التقت نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين خيرت الشاطر طوال ثلاث ساعات عشية الأزمة، لكن هذا الاجتماع لا يُعتبر مشكلة، المشكلة الحقيقية كانت عجزها عن إقناع الشاطر وجماعة الإخوان المسلمين بتقديم التنازلات الفعلية التي كانت ستمنع أزمة مماثلة.

ما العمل اليوم؟ ما زال خطر وقوع أعمال عنف أوسع والمزيد من التطورات السياسية أو حتى انهيار الدولة كبيراً، وحقيقيّاً، وملحّاً، ولكن حتى لو تفادت مصر الأسوأ، فإنها ستواجه خطر سقوطها في دوامة مميتة لا تنتهي من الحكومات الفاشلة، والتدخلات العسكرية، والانتفاضات الشعبية.

 إذاً، تعرضت فكرة الشرعية الديمقراطية لضربة قوية، ولن تمرّ الإصلاحات الدستورية والانتخابات المقبلة بسهولة، ورغم ذلك، يجب أن يبقى بناء إجماع حقيقي مؤيد للمؤسسات الديمقراطية محور السياسة الأميركية وهدف الطبقة السياسية المصرية، مهما بدا ذلك صعبًا.

ويعني ذلك تأسيس قواعد ومؤسسات سياسية تستطيع إنهاء عدم اليقين المتفشي والخوف الذي سيطر على العملية الانتقالية برمتها. جاءت العملية الانتقالية المصرية ناقصة نتيجة غياب أي قواعد شرعية محددة أو قنوات مؤسساتية لحلّ الخلافات السياسية، وهكذا تعرضت شرعية وتفاصيل كل خطوة اتُخذت في هذه العملية الانتقالية لجدال كثير، بدءاً من الاستفتاء الدستوري في مارس عام 2011 بتأليف الجمعية التأسيسية وصولا إلى الانتخابات. لكن حلّ المحكمة الدستورية العليا المجلس النيابي عشية الانتخابات الرئاسية حرم الحكومة الجديدة من فرعها التشريعي الشرعي، ولم يتبقَّ لها سوى مجلس الشورى الضعيف الذي لم يزعج كثيرون أنفسهم بالتصويت خلال عملية انتخابه.

أمل كثيرون في واشنطن (وأنا أحدهم) أن يؤدي تمرير الدستور، رغم العيوب الكبيرة التي شابته، إلى إنهاء عدم اليقين المتفشي وتعزيز الإجراءات السياسية المعتادة والحوكمة الفاعلة، ولكن من الواضح أن هذا لم يحدث، ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى سعي الإخوان المتهور للاستئثار بالسلطة من خلال وثيقة لم تحظَ بالإجماع؛ لذلك من الضروري اليوم التركيز على التوصل أخيراً إلى إجماع على مسار للمضي قدماً، سواء من خلال التعديلات الدستورية أو "طاولة مستديرة" وطنية تجمع القوى السياسية الكبرى والفئات الاجتماعية المختلفة. فمن دون إجماع مماثل ومسار واضح نحو انتخابات جديدة، ستتواصل أنماط الخلل السياسي إلى ما لا نهاية، حتى مع تغير الوجوه والمواقف.

هل من الممكن تحقيق هدف مماثل؟ لا شك أن التجربة الأخيرة لا تبدو واعدة، فقد برهن الجيش المصري عجزه عن إدارة البلاد بفاعلية، فضلاً عن أن الانقلابات العسكرية قلما تكون مساراً فاعلاً نحو الديمقراطية أو الاستقرار. ومع أن المعارضة برهنت عن قدرتها على تحريك الشارع حول قضايا أساسية، مثل الإطاحة بمرسي، تبقى انقساماتها الداخلية عميقة جدّاً، وتفتقر إلى أجندة سياسية مشتركة، بالإضافة إلى ذلك، فقدَ الإخوان المسلمون الكثير من الدعم، بيد أنهم ما زالوا يملكون قاعدة شعبية كبيرة تشعر أنها تعرضت للإساءة وخيبة أمل كبيرة نتيجة السياسات الرسمية، حتى إنها تخشى أمنها الخاص.

في المقابل، ما زالت مجموعات إسلامية أخرى تخفي أوراقها، آملة أن تستفيد من إخفاق الإخوان المسلمين، مع أنها لن تتخلى على الأرجح عن أهدافها العقائدية، كذلك عززت عملية التجييش، التي أدت إلى تظاهرات الثلاثين من يونيو، الانشقاقات والانتقادات المتبادلة والخوف.

لا تستطيع واشنطن التأثير كثيراً في عملية صوغ السياسات المصرية اليوم، حتى لو حاولت، ولا أظن أن الانقلاب العسكري قد يشكّل مساراً نحو الديمقراطية، أو أن الجيش المصري قد يتمكن من الإبحار في المياه المصرية بشكل أفضل اليوم مما رأيناه عام 2011. ولكن يجب أن تستخدم الولايات المتحدة أي تأثير تملكه كي تتوصل إلى طرق تضمن من خلالها أن هذه الانطلاقة السياسية الجديدة لن تكرر أو حتى تعمّق أخطاء المرحلة الأخيرة أو ربما تفاقمها.