ظاهرياً، لا تبدو السياسة الخارجية التي يطبقها الرئيس باراك أوباما مريعة بأي شكل، فهو أنهى التورط العسكري الأميركي في العراق ويعمد إلى تقليص التدخل الأميركي في أفغانستان بشكل جذري، كما أنه أبقى التورط الأميركي في ليبيا بمستوى منطقي ولم ينجرّ إلى الحرب الأهلية المعقدة والجهنمية في سورية. في غضون ذلك، ينشغل وزير خارجيته جون كيري بإطلاق أول محاولة جدية لعقد السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ 13 سنة فيما يصر أوباما على التروي في الملف الإيراني، ما جعل الولايات المتحدة مستعدة للتقرب من طهران في حال ثبت أن الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني جدي بشأن تحسين العلاقات، ونظراً إلى الدوافع الإنسانية التي تحرك مستشاره الجديد في مجال الأمن القومي وسفيره لدى الأمم المتحدة، يستطيع أوباما الآن التحدث بكل سهولة وكأنه مسؤول مثالي يطبّق مقاربة واقعية: إنه الخليط الذي ينجح عموماً في عالم الشؤون الخارجية.

Ad

ما يساعد أوباما هو أن الحزب الجمهوري لا يوفر راهناً أي خيار بديل فاعل، ويبدو الحزب الجمهوري عالقاً بين الانعزاليين والمحافظين الجدد. السياسة الانعزالية ليست وجهة نظر قابلة للاستمرار في عصر العولمة لأن المعطيات الجيوسياسية تتطلب التزاماً دائماً مع العالم. في المقابل، تميل نزعة المحافظين الجدد (خليط من النزعة القومية والنزعة "الويلسونية" المتشددة) إلى اعتبار القوة العسكرية الملجأ الأول بدل أن تكون الملجأ الأخير، لكن الأميركيين يفضّلون اعتبار الحل العسكري الملجأ الأخير. كان الجمهوريون الأقوى سياسياً حين أنتجت سياستهم الخارجية نزعة دولية براغماتية وموحّدة، لكنّ الوضع ليس كذلك في الوقت الراهن.

بما أن سياسة أوباما الخارجية ليست مريعة بأي شكل وبما أن الجمهوريين ليسوا جديين بأي شكل، فما سبب الاستياء من مقاربة الإدارة الأميركية في التعامل مع العالم؟ صحيح أن وسائل الإعلام لا يمكن إرضاؤها مطلقاً وتصبح أي إدارة في موقف دفاعي دائم بغض النظر عما تفعله بسبب دورة الأخبار الممتدة على مدار الساعة، لكنّ هذه الأسباب لا تبرر الفكرة الشائعة بين أشخاص جديين من الحزبين في واشنطن عن أنّ سجل أوباما قابل للنسيان (حتى الآن على الأقل).

لا يمكن رصد أي حماس مثل الذي رافق الحملات الدبلوماسية في عهد هنري كيسنجر وريتشارد هولبروك، ولا يمكن أن نشعر بذكاء الردود الدقيقة على الأحداث الجيوسياسية الخطيرة كتلك التي طبعت أداء إدارة بوش الأب، ولا الأهداف الحاسمة التي ميزت السياسة الخارجية في عهد الرئيس رونالد ريغان، فقد كان كيسنجر وهولبروك ووزراء الخارجية في عهد ريغان وبوش الأب بارعين في التحدث مع وسائل الإعلام لدرجة أنهم كانوا محور معظم الأنباء، لكن الوضع ليس كذلك مع فريق أوباما.

وسائل الإعلام لا توجه الرأي العام فحسب بل رأي النخبة أيضاً، وخلال الإدارات السابقة، كانت وسائل الإعلام تشعر بالفطرة بحصول حدث مهم في السياسة الخارجية، أما اليوم، فتشعر وسائل الإعلام بعدم حصول أي شيء على الرغم من الأحداث العابرة التي تجب تغطيتها.

لا يحصل أي حدث مهم لأن أوباما لم يحدد أي رؤية جيوسياسية عامة، فلا يشبه أوباما وكبار المسؤولين العاملين لديه كيسنجر من حيث البراعة في الارتجال على الطريقة الأوروبية، فهم لم يطرحوا أي خطة يمكن أن تحوّل الولايات المتحدة إلى قوة أخلاقية عظيمة تزامناً مع خدمة مصالحها الجيوسياسية كما فعل هولبروك، كما أنهم لا ينوون الانقلاب على أيديولوجيا تدّعي المثالية (مثل الشيوعية) كما فعل ريغان. وعلى عكس فريق بوش الأب، هم لا يخططون لإرساء الاستقرار في العالم بعد زوال تلك الأيديولوجيا. (في نهاية المطاف، الجهاد والإرهاب مرضان مثل الملاريا التي يمكن قمعها لكن من دون التخلص منها بالكامل. هذا النوع من التهديد يختلف عن الشيوعية). باختصار، يكتفي أوباما بإنكار أمر واحد: " أنا لست جورج بوش الابن. هو أطلق الحروب وأنا سأنهيها وأتجنب أي حروب مستقبلية، وسأقتل الإرهابيين الفرديين حين يظهرون؛ هذا كل شيء. شكراً لكم".

هذه هي المشكلة، إذ لا يكفي التعبير عما لا نريده، ففي السياسة الخارجية، يجب تحديد مهمة معينة مهما كانت دقيقة أو متواضعة. المهمة أو الرؤية توجّه الخيارات، وفي المقابل، يربط التوجيه بين الأفعال المختلفة في كل منطقة جغرافية من العالم، لكن مع أوباما، لا شيء يبدو مترابطاً.

عمد أوباما إلى تسريع الأزمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأن روسيا منحت حق اللجوء الموقت لعميل وكالة الأمن القومي إدوارد سنودن، لكن ما أهداف الإدارة الكبرى تجاه روسيا؟ هل تعتبر روسيا قوة توازن محتملة ضد الصين؟ وفي هذا الصدد، هل تستطيع روسيا أن تكون شريكة لتخفيف وطأة الحرب في سورية؟ وماذا عن المواجهة بين روسيا وإيران أو أوروبا الوسطى والشرقية ومناطق أخرى حيث تحاول روسيا إنشاء منطقة نفوذ من دول البلطيق إلى القوقاز؟ نظراً إلى غياب أي تماسك كاف في السياسة الأميركية تجاه روسيا، يبدو أن الخلاف الأميركي الروسي بسبب قضية سنودن حصل بتحريض من أوباما من دون وجود أي خطة عامة أو أهداف محددة.

أطلق وزير الخارجية جون كيري محادثات سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وحين التزم كيسنجر بالجهود الدبلوماسية بين العرب والإسرائيليين، كان قد حدد هدفاً أوسع: إنشاء قاعدة لتعزيز النفوذ الأميركي في المنطقة بهدف محاربة الاتحاد السوفياتي.

وتابع كيسنجر إبلاغ الصحافيين بالمعلومات عن تلك الجهود، وفي المقابل، يبدو كيري مسؤولاً معزولاً وهو لا يحظى بثقة الكثيرين، كما أن مهمته المرتبطة باستراتيجية جيوسياسية أوسع في الشرق الأوسط لا تزال غير واضحة بما يكفي. يبدو أنه يخوض ما يُسمى "عملية السلام" لأن الفرصة سانحة في الوقت الراهن، وربما وقعت تحولات دقيقة في المنطقة (مثل إضعاف "الإخوان المسلمين" في مصر وتدهور العلاقات بين مصر وغزة)، فحصل كيري على فرصته، لكن قد تكون هذه التطورات عابرة ما لم يتم رسم استراتيجية جيوسياسية شاملة مع أن تلك الاستراتيجية، إذا وُجدت، ستبقى لغزاً خارج أوساط الإدارة.

ومن دون تحديد رؤية سياسية معينة، يصعب بث النفوذ لأن الرؤية تركّز الطاقات بما يضمن توافر أوراق ضغط إضافية، وكذلك، يرتكز جزء من النفوذ، في عصر الإعلام تحديداً، على الأفكار، وبالتالي، يتراجع مستوى النفوذ من دون أفكار، ولهذا السبب لا تقتصر السياسة الخارجية الناجحة على مجموع عناصرها: مع أوباما، الأجزاء المتباينة هي كل ما نملك.

وبما أن أوباما لا يملك رؤية فاعلة، فهو يتكل بالكامل على الأحداث التي تقع مصادفة، فإذا انهارت محادثات السلام التي يهندسها كيري بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإذا تبين أن الرئيس الإيراني الجديد لا يرتقي إلى مستوى التوقعات أو يكتفي بتأخير الاستحقاقات، وإذا حصل اعتداء إرهابي قوي، فسيصبح أوباما رئيساً منسياً وغير فاعل على مستوى السياسة الخارجية.

 لننظر في المقابل إلى الرئيس وودرو ويلسون: ربما فشل في رؤيته الرامية إلى نشر الديمقراطية والحرية وتقرير المصير، لكنه بقي يلقي بظلاله على السياسة الخارجية الأميركية لأنه رسم رؤية مبتكرة. أوباما لا يفعل ذلك.

العالم مكان صعب، ويبدو أن المجتمعات الإسلامية الحذقة والمعقدة والمكتظة والغارقة بالصراعات لا ترضخ للرؤية الأميركية الكبرى. في كل حقبة، لا بد من توافر منطق أخلاقي وجيوسياسي معين كي يحكم المقاربة الأميركية تجاه العالم، ولا بد من بناء ذلك المنطق استناداً إلى ما يمكن أن تفعله واشنطن بدل أن يُبنى على الأمور التي ستمتنع عن فعلها.

كيف يمكن استعمال المعطيات الجيوسياسية لرسم استراتيجية أخلاقية؟ إنه السؤال الذي واجهته جميع الإدارات الأميركية منذ أن أصبحت الولايات المتحدة قوة عالمية في مطلع القرن العشرين. لم تُجِب إدارة أوباما عن هذا السؤال بالشكل المناسب بعد!