مثلما نسي العالم أن نوبل هو مخترع القنبلة وصار اسمه رفيقاً للسلام والآداب، فإن الناس قد ينسون أن بوش الابن، الرئيس 43، هو مهندس الحرب على العراق وسبب بلائه وتقسيمه وتقديمه لإيران على طبق من ذهب، قبل أن يصبح بيكاسو عصره. فقد وعدت معلمة دروس الرسم بأن العالم بصدد ولادة فنان عظيم، ويمكننا النظر في هذا الرأي بجدية، فهذا الرأي يقال في حق رئيس خارج الرئاسة، وليس يوم كان رئيساً يحظى بجوقة المطبلين.

Ad

بوش الابن بعد نهاية ولايتيه الرئاسيتين في أهم وأقوى منصب في العالم، قرر أن يستثمر وقته في تعلم الرسم، عبر دروس استمرت ست ساعات يومية ولمدة شهر، وقال إن السبب وراء ذلك هو أنه أراد أن يرسم كلبه الذي مات، وقد تمكن من رسم خمسين لوحة، لكنه خرج من مرحلة "الكلاب" وصار يرسم حدائق وأشجاراً وزهوراً ولايزال مستقبله الفني يعد بالكثير، ليس مهماً الآن أين سيقف بوش في مشواره الفني، وهو يقترب من السبعين، وهل سينافس دافنشي أو بيكاسو، بقدر ما يهمني كيف يعالج المسؤول الكبير أزمة فراغ المنصب وخسارته إن صحت التسمية للوجاهة والمركزية التي عاشها سنين؟

المسؤولون الكبار في بلادنا تتدهور حياتهم وتهاجمهم الأمراض والسوداوية والكآبة، بمجرد أن يحالوا إلى التقاعد، فالمسؤول يظن أن الناس قد انفضوا من حوله لسوء أصلهم، وجشعهم ويقرر أن الحياة قلبت له ظهر المجنّ. لأن الذات التي تضخمت وتغذت على المديح والتبجيل يوجعها أنه لم يعد أحد يقول لها "سم طال عمرك" وأن اسمه ما عاد يفتح له مغارة علاء الدين السحرية، وهو يظن أنه فقد كل ذلك بسبب تنكُّر الناس له، لا بسبب دوره في تفشي الفساد وقفز الناس بعضهم على بعض، بحسب مناصبهم لا بحسب كفاءتهم وأحقيتهم، والناس الذين انفضوا من حوله ذهبوا يلاحقون التالين الذين حلوا في المناصب الجديدة. السنوات التي قضاها المسؤول في منصبه أقنعته بأنه أهم إنسان في العالم وأقوى وأشجع وكل أفعال التفضيل قد سمعها، وهو يصرف من خزينة العامة لتقوية نفوذه لا لتقوية مواطنه ويحول الخدمة إلى عطاء ومنحة، وحين يترك منصبه يظن أن الناس قد هجروه في حين أنهم لم يقتربوا منه قط، بل كانوا يقتربون من الكرسي، وقد تذكرت أحد مقاطع مسلسل "طاش" الذي ظهر فيه مسؤول جديد يتقاطر عليه الوجهاء ورجال الأعمال في زحام شديد ويتخاصمون، أيهم يحظى بدعوته لوليمة، فاستجاب لهم وبعث لهم بالكرسي كي يأكل وليمتهم لأنه يعرف أنهم ما أولموا لشخصه بل للكرسي.

حين يتقاعد المرء في بلادنا لا يستغل هذه الفرصة كي يتعرف على نفسه وعلى العالم من حوله، في طريق المعرفة هذه يكمل ما انقطع عنه أو يفتش عن هواية يغذي بها روحه وتمتعه، لقد سممت روحه عبودية الذات وصدق المنافقين الذين ضحكوا عليه أو هو من سمح لهم أن يضحكوا عليه، لكنها ليست جريمة الفرد وحده بل جريمة ثقافتنا التي تساعد على نمو الكذب وتحارب ثقافة اكتشاف الذوات وتواضعها وتنميتها.

بوش سعيد مع كلابه، وكثير منا شقي مع فراغه، رغم هذا فقد سمعت تعليقاً عربياً يقول: "الله يا دنيا من رئيس إلى رسم كلاب"، ما فيه فايدة، عمك أصمخ!