سافر الرئيس باراك أوباما عام 2009 إلى القاهرة بهدف تحسين علاقة الولايات المتحدة بالمسلمين حول العالم، وفي الخطاب الذي ألقاه هناك وأعطاه البيت الأبيض العنوان "بداية جديدة"، أدلى أوباما بتصريحات قوية، داعماً القضية الفلسطينية. فقد أعلن: "لا شك أن وضع الشعب الفلسطيني لا يُحتمل. لن تدير الولايات المتحدة ظهرها لطموح الفلسطينيين المشروع إلى التمتع بالكرامة والفرصة ودولة خاصة بهم".

لكنه لم يتفادَ في الوقت عينه الموضوع الحساس عن العلاقة الأميركية بإسرائيل، التي اعتبرها "متينة لا تنقطع". ذكر أوباما ذلك، مع أنه يعلم جيداً أن هذا التصريح لن يفرح الحضور المسلم. كذلك أعلن الرئيس في محاولة لتوضيح أسباب الدعم الأميركي للدولة اليهودية: "تعرّض الشعب اليهودي حول العالم للاضطهاد طوال قرون، وقد بلغت معاداة السامية في أوروبا ذروتها مع محرقة لم يسبق لها مثيل. فقُتل أكثر من ستة ملايين يهودي، أي ما يفوق عدد سكان كامل إسرائيل اليوم. لا مبرر لإنكار هذا الواقع، فهذا ينم عن جهل وكره".

Ad

جاء تصريح أوباما في مرحلة اعتقد فيها إسرائيليون كثر أنه كان يستعد لتفكيك العلاقات الخاصة بين بلده وإسرائيل، فأمل مساعدوه أن تهدّئ كلماته هذه خوف اليهود من الرئيس الجديد الذي يحمل الاسم الثاني "حسين".

لم تجرِ الأمور كما يشتهي الأميركيون، وقد تتساءلون: لماذا؟ لمَ ينفّر تصريح مؤثر عن التعاطف مع ضحايا المحرقة وإدانة قوية لإنكار المحرقة الإسرائيليين والكثير من أصدقائهم في الولايات المتحدة؟ أهلاً بكم في الشرق الأوسط، حيث تملك كل قبيلة وعقيدة شفرتها الخاصة. ولا شك أن إتقان هذه الشفرات ليس بالأمر السهل.

القضية الإسرائيلية

من الأسباب التي تدفع أوباما إلى السفر إلى إسرائيل الأسبوع المقبل، وهذه أول رحلة له إلى خارج الولايات المتحدة في ولايته الثانية، تصحيح انطباع (وُلد في جزء منه بسبب زيارة القاهرة) أنه لا يفهم تاريخ إسرائيل، وأنه لا يملك أي مشاعر تجاه العدالة الأساسية الكامنة وراء قضيتها، ولا يقتصر هذا الانطباع على الكثير من الإسرائيليين.

فقد أشار استطلاع للرأي أجرته أخيراً صحيفة "هيل" إلى أن 39% من الأميركيين قالوا إن الرئيس لا يدعم إسرائيل كفاية، وأن 13% فقط اعتقدوا أنه يقدّم لها الكثير من الدعم.

كيف ترك أوباما هذا الانطباع؟ في الولايات المتحدة، تعود هذه النظرة في جزء منها إلى الجمهوريين المستهزئين الذين سعوا إلى تحويل دعم إسرائيل إلى قضية حزبية.

أما في إسرائيل، فالوضع أكثر تعقيداً، كان لخطاب القاهرة تأثير مخيف لأن المحرقة النازية وحدها لا تبرر في نظر الإسرائيليين وجود دولتهم، ويوضح يوسي كلاين هليفي، باحث في معهد شالوم هارتمان في القدس: "لا تعلل المحرقة وحدها وجودنا هنا. توضح المحرقة لمَ نحارب بشراسة خلال إقامتنا هنا، إلا أنها لا تفسر جذورنا وتأصلنا".

يوضح هليفي أن أوباما أخفق في القاهرة في الإقرار "بأصالة اليهود في المنطقة" وبفكرة أن التاريخ (الوجود اليهودي المتواصل في أرض إسرائيل القديمة طوال أكثر من 3 آلاف سنة) يبرر المطالب اليهودية العصرية بإقامة دولة هناك، ويضيف: "طلب أوباما في القاهرة من العالم العربي الإشفاق على اليهود، فوقع بذلك في شرك مَن يقولون: "إن حدثت المحرقة حقّاً، فليدفع الألمان ثمنها، لا العرب". ولا شك أن هذا ردّ منطقي إن كنت لا تعتقد أن اليهود ليسوا من هذه المنطقة".

كان لغياب الأفكار الصهيونية في خطابه تأثير سلبي، مع أن ذلك مبرر من حيث الموضوع، فقد كان هذا الخطاب موجهاً في النهاية إلى المسلمين، لا اليهود، لكن أوباما يُدرك تماماً الأفكار التي تحرك القومية اليهودية. فخلال حملته الرئاسية الأولى عام 2008، تحدثتُ معه مطولاً عن الشرق الأوسط، فأخبرني أنه اطلع على قصة إسرائيل باكراً في حياته عندما أوضح له مستشار في مخيم يهودي "فكرة الحفاظ على الثقافة عندما يُطرد شعب من أرضه ويتمسك بفكرة العودة في النهاية إلى أرض الوطن". وتابع أوباما: "بدا لي حديثه قويّاً ومؤثراً جدّاً، ربما لأني كنت ولداً لم يشعر دوماً أن جذوره متأصلة في مكان ما".

بناء الثقة

خلال ولايته الأولى، ظن الرئيس ألا داعي للسفر إلى إسرائيل أو الأراضي الفلسطينية إلى أن تحقق المفاوضات تقدماً ملحوظاً، لكن تفكيره هذا تبدّل السنة الماضية، حين أدرك أن إعادة تقديم نفسه إلى الإسرائيليين والتأكيد لهم أنه يفهم وضعهم قد يساهمان في بناء الثقة وتعزيز عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة. "الحق يُقال، سئم الرئيس من السؤال: لمَ لم يزر إسرائيل بعد؟".

لن ينال الفلسطينيون إلا بضع ساعات من وقته، فسيقوم بزيارة سريعة إلى رام الله، عاصمة ما تبقى من الضفة الغربية.

ولكن خلال هذه الرحلة، سيحظى أوباما على الأقل بفرصة رمزية مهمة للاطلاع على تاريخ اليهود قبل المحرقة النازية، فسيزور قبر ثيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية العصرية، وهدف هذه الرحلة التأكيد للإسرائيليين أنه لا يدرك واقع الوجود اليهودي في إسرائيل فحسب، بل يعي أيضاً شرعية هذا الوجود.

علاوة على ذلك، سيزور جناح "ضريح الكتاب" في متحف إسرائيل، الذي يضم أدراج البحر الميت، وتُعتبر هذه الأدراج دليلاً على ارتباط اليهود بهذه الأرض قبل المسيحية والإسلام. (أرادت الحكومة الإسرائيلية، التي تبذل جهوداً لا داعي لها، أن يرى أوباما نموذجاً عن الهيكل الثاني، الذي كان قائماً في الماضي مكان مسجد قبة الصخرة، لكن الخبراء في شؤون الشرق الأوسط في إدارة أوباما ظنوا أن من الأفضل إبعاد الرئيس عن بضعة ألغام على الأقل).

بما أن زيارة أوباما ستركز على مستقبل إسرائيل وعلى ماضيها القديم، فهل تشجعه الحكومة الإسرائيلية على عدم زيارة مؤسسة ياد فاشيم، التي تضم النصب التذكاري الوطني للمحرقة؟ كلا بالتأكيد، حسبما أخبرني مسؤول إسرائيل طلب عدم ذكر اسمه كي يتمكن من التكلم بحرية، فمن المستحيل أن يأتي إلى إسرائيل من دون زيارة ياد فاشيم، ولكن ألم يشتكِ الإسرائيليون المرة الماضية من أنه استفاض في الكلام عن المحرقة النازية؟ علت وجه المسؤول الإسرائيلي ابتسامة معبّرة، ثم سألني: إن لم يزر ياد فاشيم، فماذا سيقول الجمهوريون؟

يبدو أن لكل أمر شفرة، وإن نجح أوباما في فك الشفرة الإسرائيلية خلال زيارته هذه، فقد يتمكن أخيراً من إقناع الإسرائيليين أنه يفهمهم حقّاً، وقد يحظى عندئذٍ بفرصة مخاطبتهم بحرية (متخطيّاً رئيس وزرائهم إن دعت الحاجة) عن الخيارات الصعبة التي يواجهها بلدهم.