ظهرت ثقافة الجماعات منذ قديم الأزل انطلاقاً من الحق الطبيعي للبشر في الاجتماع، ففي كل حقبة زمنية تكون فيها الدولة أو المجتمع غير قادرين على تلبية احتياجات الناس أو عدم استيعابها، تظهر جماعة تأخذ على عاتقها العزف على أوتار هذه الحاجات أو الطموحات كمبرر للانضمام إلى هذه الجماعات.

وتتباين الجماعات في ما بينها، فمنها جماعات فئوية تشكلت للدفاع عن أبناء المهنة الواحدة، ثم تطورت لتصبح كياناً أساسياً من الكيانات القانونية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وتأخذ في الزمن المعاصر شكل النقابات أو الجمعيات، ومنها جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان والحيوان والبيئة والطبيعة والمرأة والصحة والمرضى والمستهلك وغيرها من الجماعات في شتى مناحي الحياة، وأخطرها على الإطلاق الجماعات العقائدية والدينية والمذهبية والسياسية.

Ad

لا توجد دراسة علمية تحدد معياراً موحداً لشرعية هذه الجماعات، ويمكن القول إن هذا المعيار يتمثل فيما إذا كانت الجماعة تهدف أو تعمل في إطار منظومة المجتمع والدولة، وتؤدي في النهاية إلى تحقيق أغراض المجتمع وإشباع حاجاته واستكمال أوجه النقص التي تقصر عنها إمكانات الدولة، فتصبح الجماعة -في الواقع- شريكاً متضامناً مع الدولة والمجتمع في تحقيق غاياته وتلبية احتياجاته، وعنصراً إيجابياً فاعلاً لتطور الدولة والمجتمع وتحقيق وحدته، والانصهار في كيانه وإدراك متطلباته والتفاعل معها، والمساهمة في حل مشكلاته وتقوية بنيان الدولة ومساعدتها في تحقيق أغراضها نحو الارتقاء بالفرد والمجتمع.

لكن هناك جماعات أخرى تنشأ بحسب الأصل لرفضها أنماط المجتمع وتقوم كبديل للدولة ونقيض لها، وتعمل في اتجاه مضاد لحركة المجتمع والدولة، ويقوم منهجها على الانعزال ورفض المشاركة المجتمعية وتخطئة المجتمع، فتنشأ الجماعة ليس بقصد المساهمة ومشاركة المجتمع في تحمل المسؤولية والواجبات، وإنما بغرض الانفصال عنه ورفض الانخراط فيه. وترفض الجماعة الانصهار في نسيج المجتمع، فتعمل تلك النوعية من الجماعات على رفض منهج المجتمع -كلياً أو جزئياً- وترى أن إصلاحه يكون بالخروج منه أو عليه دون محاولة تقويمه من داخل المجتمع ذاته، وإنما تنشأ الجماعة بديلاً عن المجتمع ومناهضاً له، وتسير في غير اتجاه حركة المجتمع، فإذا قويت شوكة الجماعة واشتد بنيانها وكثر أعضاؤها ودانت لها السلطة، فإنها تسرع في الحلول محل الدولة وابتلاعها، لكي تصبح الجماعة هي الدولة، وتصبح الدولة ميراثاً من أملاك الجماعة... حفظ الله أوطاننا.