كانت تلك المرأة مستلقية على حاجز الميناء في لامبيدوزا وتفتقر إلى معالم الحياة وسط عشرات الجثث. ثم لاحظ أحدهم أنها لا تزال تتنفس. بدل وضعها في تابوت من الزنك مثل الآخرين، نُقلت سريعاً في مروحية إلى مستشفى في باليرمو.

لم تتضح بعد نسبة نجاة تلك المرأة المجهولة التي تأتي من إريتريا وتبدو بعمر العشرين تقريباً. إذا نجت، ستكون واحدة من 150 شخصاً نجوا من المأساة التي وقعت أخيراً بالقرب من جزيرة الأرانب، مقابل ساحل لامبيدوزا، حيث اشتعلت سفينة كانت قد أبحرت من مدينة مصراتة الليبية وعلى متنها حوالى 500 لاجئ ثم غرقت. توفي 181 شخصاً على الأقل قبالة إيطاليا التي اعتبروها أرضاً واعدة. لا يزال أكثر من مئة شخص في عداد المفقودين، ويحارب الغواصون وخفر السواحل الإيطالي الأمواج العالية والرياح القوية في خضم جهودهم لإنقاذ الوضع.

Ad

في الكتيبات السياحية، تكشف تلك الجزيرة المتوسطية الصغيرة (موقع للاتحاد الأوروبي قبالة الساحل التونسي) عن {شواطئها البيضاء وطبيعتها الخلابة وبحرها الحيوي والشفاف}. لكن تستهدف حملاتها الإعلانية في المقام الأول الزوار الذين يصلون إلى مطار الجزيرة ويمضون بضعة أيام للاسترخاء على الشاطئ قبل أن يعودوا إلى ديارهم.

لكن نظراً إلى سهولة الوصول إلى لامبيدوزا من إفريقيا أكثر من بقية أوروبا، يتوه اللاجئون (أو يغرقون) في مياه الجزيرة منذ سنوات. حتى خلال تلك الليلة الكارثية، وصل مركب آخر إلى الجزيرة وعلى متنه 463 لاجئاً وكانوا سوريين في معظمهم. غالباً ما يحطّم مهرّبو البشر محركات سفنهم قبل بلوغ الشاطئ. هذا ما يجعلهم عاجزين عن التحكم بالسفن كي يُعتبَروا رسمياً في محنة وكي تبرز الحاجة إلى سحبهم نحو الميناء.

تستجوب السلطات رجلاً تونسياً عمره 35 عاماً وقد اعتُقل بصفته قبطان السفينة المزعوم لمعرفة حقيقة ما حصل في صباح يوم الخميس وسبب اندلاع الحريق وغرق السفينة. كان ذلك الرجل قد رسا بطريقة غير شرعية في لامبيدوزا في 11 أبريل من هذه السنة، لكن أُعيد ترحيله حينها إلى تونس.

إصلاح نظام دبلن

حتى قبل سحب جميع الجثث من هيكل السفينة في أواخر الأسبوع الماضي، علت أصوات المشيّعين والمنقذين والمحرّضين. كان وزير الداخلية الإيطالي ونائب رئيس الوزراء أنجيلينو ألفانو قد ساهم في وضع مسودة المعاهدة الإيطالية الليبية التي تسمح للدوريات ومختلف التدابير بإعادة اللاجئين بحراً إلى ديارهم، وقد بدأ يعبّر عن مطالبه أثناء زيارة لامبيدوزا.

وقف ألفانو وسط جثث اللاجئين وقال إنه يأمل أن تكون {العناية الإلهية قد أدت إلى هذه المأساة كي تفتح أوروبا عيونها}. كذلك، دعا إلى إحداث تغييرات عاجلة في نظام دبلن. وفق ألفانو، يطلب ذلك النظام {أموراً مفرطة} من تلك الدول المتوسطية التي تشهد وصول اللاجئين إلى الأراضي الأوروبية.

كذلك، يدعو مارتن شولز، رئيس البرلمان الأوروبي، إلى توزيع الأعباء على نطاق أوسع، وقد اعتبر أن مسألة اللاجئين تطرح {مشكلة بالنسبة إلى جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي}. أكد شولز على ضرورة ألا تواجه إيطاليا وحدها مشكلة التكيّف مع تدفق أعداد هائلة من الناس من إفريقيا وآسيا.

كتب شولز في بيان صحفي أنّ تدفق الناس المتواصل إلى القارة القديمة {ليس مسألة يجب مناقشتها من اللجان في بروكسل، بل إنها مسألة تستلزم التضامن داخل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي}. ثم اعتبر أن طريقة الاتحاد الأوروبي في مناقشة هذه المسألة {مريعة}.

عدّل الاتحاد الأوروبي في شهر يونيو نظام دبلن المثير للجدل الذي صدر في عام 2003، فبات كل لاجئ يصل إلى أوروبا يستطيع طلب اللجوء حصراً في بلد الاتحاد الأوروبي الذي يدخله أولاً. هذه القاعدة تفيد ألمانيا في المقام الأول لأنها محاطة بدول أخرى ضمن الاتحاد الأوروبي، ما يجعل دخولها بشكل قانوني شبه مستحيل على اللاجئين. نتيجةً لذلك، يحتل أهم رابع اقتصاد في العالم المرتبة الحادية عشرة في أوروبا على مستوى عدد طالبي اللجوء الذي يقبله البلد نسبةً إلى عدد سكانه.

يتجمّع الناس القادمون من مناطق الأزمات في العالم على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، ويتوجه الأفارقة عموماً نحو إيطاليا، والشيشان نحو بولندا، والسوريون والإيرانيون والعراقيون نحو اليونان. أما في ألمانيا، فتسود فكرة عامة مفادها أن اللاجئين ليسوا مشكلتهم.

مشاكل خطيرة

كان نظام دبلن يهدف إلى إجبار الدول في جنوب وشرق أوروبا على إجراء دوريات فاعلة على حدودها. في السنوات الأخيرة، استثمر الاتحاد الأوروبي الملايين لمنع توافد المهاجرين غير المرغوب فيهم. شملت التدابير نشر وحدات الشرطة على الحدود الخارجية، فضلاً عن بناء أسوار واستعمال تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية لمراقبة طرق اللاجئين.

لكنّ تلك التدابير لم تردع اللاجئين. يموت الآلاف وهم في طريقهم إلى أوروبا، بينما يفرض الأشخاص الذين ينجون ويطلبون اللجوء عبئاً متزايداً على الدول التي غصّت بالوافدين على طول الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. في إيطاليا، يحصل شخص من أصل ثلاثة على الإذن بالإقامة، بما يفوق المعدل المسجّل في أي بلد آخر من دول الاتحاد الأوروبي. لكن يجد عدد قليل من الوافدين وظيفة ومكاناً للإقامة بينما يعيش الآخرون في الشارع أو في الحدائق حيث يفتقرون إلى الرعاية الطبية.

يقدم {نظام الحماية الإيطالي لطالبي اللجوء واللاجئين} (SPRAR) أماكن للإقامة ودورات لتعليم اللغات واستشارات. لكن يمكن أن يأوي ذلك النظام ثلاثة آلاف شخص فقط من أصل مجموع مقدمي الطلبات الذين يبلغ عددهم 75 ألف. اعتبر نيلز موزنيكس، مفوض حقوق الإنسان في المجلس الأوروبي، أن الظروف {صادمة}، وذكر أن {الغياب شبه التام} لنظام اللجوء في إيطاليا أدى إلى {مشاكل خطيرة على مستوى حقوق الإنسان}.

تبدو أنظمة اللجوء في بلدان أخرى على طول الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي فاشلة أيضاً (إذا وُجدت أصلاً). تنتهك عملية اللجوء في بولندا مثلاً معايير {المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين}، بحسب ما كتب مجلس اللاجئين البلجيكي في تقرير يعج بالانتقادات. تنفصل العائلات أحياناً ويبقى اللاجئون المصدومون وحدهم.

أشارت التقارير إلى أن اللاجئين في هنغاريا احتُجزوا في مراكز الاعتقال وتعرضوا للضرب بالعصي أو تنشقوا الغازات المزعجة في بعض الحالات. تُحتجز النساء الحوامل في السجن إلى حين موعد الولادة. أدت هذه المعاملة المتكررة إلى الإضراب عن الطعام في الماضي. في اليونان، تعرض مئات اللاجئين لسوء المعاملة في المخيمات، وقد وصفت وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية تلك الحوادث بالكارثة الإنسانية.

بسبب التقارير التي تتناول تلك الظروف، تشجّع لاجئون كثيرون على متابعة سيرهم نحو أوروبا الوسطى والشمالية. لكن تلجأ الحكومة الألمانية إلى نظام دبلن لإعادة اللاجئين إلى الدول التي تشهد ظروفاً سيئة.

دعوات للتغيير

طورت الجمعيات الخيرية والمنظمات، مثل {برو-أسيل} (مقرها فرانكفورت)، مفهوماً مشتركاً لإصلاح نظام اللجوء الأوروبي. يشرح المحامي رينهارد ماركس، أحد معدّي المذكرة، أن الهدف ليس التخلص من الضوابط على الحدود. سيتابع اللاجئون التوقف والتسجل عند دخول أوروبا، لكن سيُسمَح لهم باختيار البلد الأوروبي الذي يريدون تقديم طلب اللجوء فيه.

يظن الخبراء أن هذا النظام سيخفف العبء عن دول مثل إيطاليا. سينجذب عدد كبير من اللاجئين إلى دول يمكن أن يعيشوا فيها في ظل ظروف لائقة نسبياً، مثل ألمانيا. سيساهم ذلك أيضاً في التخلص من دوافع تهريب البشر داخل أوروبا.

بحسب رأي رئيس البرلمان الأوروبي شولز في تصريحه، من الواضح أن {الجرائم المنظمة والصراعات في جوارنا تقف وراء هذه المأساة. يجب أن نكثّف جهودنا لردع المجرمين، داخل وخارج الاتحاد الأوروبي، كي نستفيد من هذه المأساة الإنسانية}.

يتكل معظم اللاجئين اليوم على المهربين إذا أرادوا بلوغ دول مثل ألمانيا انطلاقاً من محيط دول الاتحاد الأوروبي. يقول المحامي ماركس: {نظام دبلن هو مخطط لخلق فرص عمل جديدة لصالح مهرّبي البشر}. بحسب رأيه، يجب أن يتمكن طالبو اللجوء مستقبلاً من اختيار الدول التي يعيش فيها عدد من أبناء وطنهم مثلاً. يمكن أن تتلقى الدول التي تستقبل أعداداً أكبر من اللاجئين دعماً من صندوق اللجوء والهجرة في الاتحاد الأوروبي.

هل يمكن أن يقتنع وزير الداخلية الألماني هانز بيتر فريدريش بهذه الفكرة؟ طلب وزير الداخلية الإيطالي ألفانو وضع مشكلة اللاجئين على أجندة اجتماع وزراء داخلية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ. يوضح ألفانو: {سنرفع أصواتنا بكل وضوح في أوروبا}.

تخضع الحكومة الإيطالية بدورها للضغوط. في تقرير صدر أخيراً عن الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، تعرضت سياسة روما لنقد لاذع. ذكر التقرير أن إيطاليا تبدو {غير مستعدة} مجدداً لتنامي عدد اللاجئين و}قد يتشجع الوافدون غير الشرعيين على التوجه شمالاً وعبور الحدود الإيطالية نحو دول الشنغن الأخرى}. بهذه الطريقة، ستتابع الدول الأوروبية تقاذف مسؤولية اللاجئين.

في غضون ذلك، أصبح المتوسط مقبرة أحلام الصوماليين والإريتريين الذين غادروا الساحل الليبي باتجاه {القلعة الأوروبية}.