إذا كان من حسنة وحيدة للحرب التي شُنت أخيراً على الحركات الجهادية شمال مالي، فهي تتمثل في إعادة الاعتبار لمدينة "تمبكتو" أو بمعنى أدق لفت الأنظار، إلى تلك المدينة العريقة بما تحمله من إرث ثقافي إسلامي بارز، وبما تحويه من مخطوطات تاريخية، بعضها خُط بأيدي علماء هذه المدينة الأثيرة مثل "أحمد بابا" الذي تحمل بعض معالم المدينة اسمه تكريماً وتشريفاً لتاريخه، وبعض تلك المخطوطات مما دُوّن بأيدي علماء ورحالة مروا عليها، ودوّنوا بعض معالمها الجغرافية والميدانية، وكل ما يتعلّق بقبائل المنطقة وتشعباتها العرقية.

Ad

وليس مرور هؤلاء الرحالة مرتبطاً بالعرب وحدهم، فثمة رحالة ومستكشفون أوروبيون أدركو أهمية هذه المدينة منذ أواخر الخامس عشر، وإن كانت أهمية المدينة العلمية والثقافية بدأت تتشكل قبل ذلك بما يقارب قرناً من الزمان، ومن المستكشفين الأوروبيين الذين استوطنوا تمبكتو، وعشقوا تراثها، ورمال صحرائها الفرنسي رينيه كاييه، وحسن الوزان أو "ليون الإفريقي" الذي يمكن وصفه بالشخصية العربية الأوروبية في آن، وقصته مع الاستكشاف وعشق الجغرافيا والبحث العلمي، طويلة ومشوقة إلى حد يشبه الأسطورة، وتصفه بعض المصادر بأنه أهم شخصية دوّنت تاريخ تومبكتو، وبالتالي رسُخ اسمها في الذاكرة الأوروبية إلى حد لا يمكن إغفاله.

كان بإمكان تلك الحركات الجهادية التي استوطنت مدناً عدّة شمال مالي أن تدرك سخط السكان وضيقهم من طريقة حكمها، فأدوات الإرهاب المستخدمة باسم الدين لم تعد مقنعة بما يكفي، وسكان هذه المدن يريدون أن يعيشوا حياة آمنة، تكفل لهم الحرية الشخصية، الحرية المحمية بالقانون، وأن يشعروا بالأمان على أموالهم، ومحالهم التجارية برغم بساطة هذه المحال، وضآلة ممتلكاتهم، إلا أنهم بحاجة ماسة إلى الأمان، ولذا كان لافتاً ذلك الفرح العارم الذي استقبل به السكان المحليون القوات الفرنسية. وكل من يقرأ تاريخ فرنسا في إفريقيا يدرك حساسية موقف الأفارقة تجاه هذه الدولة/ المستعمر، ويندر أن تجد شخصاً على المستوى الشعبي يمتدح فرنسا أو قواتها في المدن الإفريقية، بل إن النظرة السائدة، أو الثقافة النمطية تتمثل في نبذ المستعمر، "ناهب ثروات البلد"، إلا أن الآية استُبدلت تماماً في هذه المرة، وخرج السكان المحليون في مدن شمال مالي يستقبلون جنود المستعمر بالأغاني والأفراح، فهل يدرك الجهاديون فداحة أفعالهم، وأنه لم يعد لم مكان في هذه القارة السمراء؟

 يمتطي كثير من الباحثين الأفارقة الجمال لعبور الصحراء، ومن ثم الوصول إلى مخطوطات وآثار تمبكتو المتعلقة بأنساب القبائل خاصة، وهي مسألة يهتم بها الباحثون، ولا يجدون لها مصادر، سوى ما هو موجود في مكتبات باريس، وتمبكتو تعيد الأمل لهم. وأعرف من هؤلاء الباحث التشادي د. حقار أحمد الذي وصف لنا ذات مرة رحلة شاقة خاضها للوصول إلى تمبكتو والاطلاع على بعض مخطوطاتها، ود. حقار لمن لا يعرفه أحد الباحثين البارزين في تشاد على مستوى اللغتين العربية والفرنسية، ويحل ضيفاً على مراكز إسلامية وعالمية عريقة لإلقاء محاضرات حول تاريخ وقبائل المنطقة.

وبالنظر إلى أهمية مدينة تمبكتو وموقعها الجغرافي والثقافي، تبرز مسائل أخرى تتمثل في توفير الدعم المادي الكافي لإعادة ترميم تلك المساجد، والمكتبات التاريخية، وإعادة الحياة إلى المخطوطات التاريخية التي لم تتضح الصورة بعد عن مصيرها، ففي حين تتحدث تقارير عن إحراقها، ثمة من يقول إن جُلها نقل إلى مكان آمن قبيل سيطرة الجهاديين على المدينة، وبالتالي فإن ما أُحرق ليس بالشيء الكثير، في كل الأحوال، تبقى مسألة إعادة ترميم وإحياء تلك المخطوطات مسؤولية جسيمة، وليس بمقدور الحكومة المالية وحدها القيام بها، وكان بإمكان مؤتمر المانحين الذي أطلق في مدينة أديس أبابا، وجمع مئات الملايين، أن يخصص جزءاً من هذه الأموال لإعادة ترميم وإحياء المعالم الثقافية في المدينة، بدلاً من أن تذهب الأموال كلها إلى الجيش المالي، أو جيوب المتنفذين من العاملين في وزارة الدفاع.