لا يملك الجيش الأميركي ما يُقارب الخمسة آلاف من خبراء المعلوماتية الذين يتحلون بالمهارات اللازمة. وسيؤدي نقل الأعداد المتوافرة إلى قيادة الفضاء الافتراضي إلى نقص كبير وفراغات في الوحدات التي يعملون فيها راهناً. أما برامج التعليم والتدريب الكثيرة، بما فيها مواقع Cyber Corps، فتحتاج إلى عقود لتؤمّن العدد المطلوب من محاربي الإنترنت، حتى لو كانت تعمل بطاقتها القصوى. باختصار، يبدو أن السبل إلى سد الحاجة الملحة إلى عدد أكبر من الجنود الرقميين محدودة، إلا إذا كانت الإدارة مستعدة لتجربة طرق توظيف مبتكرة بهدف جذب مَن يملكون المهارات اللازمة.من هذه الطرق المبتكرة إقناع تقنيي قطاع المعلوماتية المهرة بالانضمام إلى هذه القيادة والعمل لصالح بلدهم. لا داعي لاتباع طريقة توظيف تقليدية، فارضين على مَن يتقدّم تخصيص سنوات من الخدمة الفعلية. فيمكن مثلاً ضم الرجال والنساء الموهوبين إلى تشكيلات الاحتياط والحرس، أو حتى ابتكار وحدات جديدة تعَدّ خصوصاً لهم. ومن الممكن إقامة مواقعها بطريقة إستراتيجية قرب محاور عالم المعلوماتية. على سبيل المثال، تتوافر مساحة راهناً في موفيت فيلد في وادي السليكون، حيث تقع راهناً وحدات العمليات النفسيات في الحرس الوطني والاحتياط التابعين لسلاح الجو. وأعرف الكثير من التقنيين الذين يرغبون في اقتناص فرصة مماثلة لخدمة بلدهم. وإذا ضُمت هذه الوحدات إلى وحدات أخرى في محاور عالم المعلوماتية في مختلف أنحاء البلد، فسننجح في سدّ هذه الحاجة بسرعة. يقبل الجميع بتقديم فترات قصيرة متكررة من الخدمة الفعلية. لكن عددهم الكبير سيضمن تدفقاً متواصلاً من المحاربين الرقميين إلى النظام.من الطرق الأخرى لتأمين هذا العدد الكبير من خبراء عالم المعلوماتية توظيف كبار قراصنة الكمبيوتر. هذه الطريقة معتمَدة اليوم، وإن كان نطاقها أضيق بكثير. لكنني أقصد هنا العثور (ليست بالمهمة السهلة) على أبرز القراصنة حول العالم، أشخاص يستطيعون بكل سهولة اختراق أي وسائل حماية إلكترونية، وتوظيفهم. حتى اليوم، بعد مرور نحو 25 سنة على إلحاق دودة موريس الضرر بنحو 10% من الكمبيوترات المتصلة بالإنترنت من خلال آلية انتشار مبتكرة (أول عملية قرصنة كبرى)، لا يتخطى عدد القراصنة الحقيقيين البارعين بضع مئات (فكروا في مورفيوس وترينيتي ونيو في سلسلة أفلام The Matrix). تسعى دول وشبكات إجرامية كثيرة إلى التعامل مع هؤلاء. لكن الإرهابيين لم يحاولوا سلوك هذا الدرب لأنهم ربما يخشون أن يكون القرصان الذي يلجأون إليه عميلاً مزدوجاً، فيفضح أمر الشبكة بأسرها، التي سرعان ما يُقضى عليها.ترحيب الأبطاليشبه أسياد الفضاء الافتراضي علماء الصواريخ الألمان بعد الحرب العالمية الثانية. فقد سعى طرفا الحرب الباردة إلى توظيفهم لبناء صواريخ للحرب وأخرى لاستكشاف الفضاء. وقد أصبح أحدهم، فيرنر فون براون، بطلاً أميركيّاً نتيجة مساهماته الكبيرة في برنامج الفضاء الأميركي. وما زلت أذكر أنني كنت أجلس في إحدى دور العرض، عندما كنت صغيراً، والسعادة بادية على وجهي، فيما رحت أتابع قصة حياة فون براونI Aim at the Stars. لم يكترث أحد بواقع أنه قصف أحياناً لندن، فهو مَن كان سيحملنا إلى الفضاء الخارجي.لكن المفارقة أن مَن يستطيعون قيادة استكشافاتنا في الفضاء الافتراضي لم يحظوا بترحيب الأبطال في الولايات المتحدة. يلقى قراصنة العالم الرقمي معاملة حسنة في الصين وروسيا وغيرهما من الدول، باستثناء الولايات المتحدة، حيث غالباً ما يطاردهم رجال القانون. كذلك يتعامل الجهاز القضائي معهم بقسوة كبيرة. على سبيل المثال، واجه آرون شوارتز، القرصان الذي أراد نشر مقالات مجلات أكاديمية على شبكة الإنترنت (فكرة يحبذها الأكاديميون) عقوبة سجن قد تصل إلى 35 سنة لولوجه هذه المقالات (الكثير منها). ولكن بدل أن يقبل بصفقة أو يمثل أمام المحكمة، انتحر قبل ثلاثة أسابيع. ولا يُعتبر شوارتز القرصان الوحيد الذي قتل نفسه.ثمة أيضاً حالات مثل غاري ماكينون، الذي تمكّن من مقر إقامته في بريطانيا اختراق الكثير من أنظمة المعلومات الدفاعية الحساسة قبل نحو عقد ببحثه عن نقاط دخول بين كلمات السر المبدئية التي لم تُغيَّر. كان ماكينون، الذي يعاني التوحد، يبحث عن حقيقية الصحون الطائرة (ومَن لا يريد معرفة حقيقتها؟). لكنه تسبب بكثير من الاضطراب في أنظمة الجيش والبحرية.أمضت الحكومة الأميركية سنوات محاولةً ترحيله من المملكة المتحدة، غير أن مكتب الأمن القومي البريطاني رفض الطلب الأميركي في الخريف الماضي لأسباب إنسانية (أظهر تقييم نفسي أن ماكينون قد ينتحر إن رُحّل). رغم ذلك، لم تُسقَط التهم المقدَّمة ضده، وتهدد واشنطن بمتابعة هذه القضية. ولكن إن أردنا اجتذاب كبار القراصنة للعمل معنا، تُشكّل هذه القضية الأهم التي يجب أن يستخدم فيها الرئيس أوباما صلاحياته ويمنح ماكينون العفو.لا شك في أن عمل رحمة واحداً يقدِم عليه الرئيس، كما في حالة ماكينون، لن يصلح تماماً علاقات القراصنة بالحكومة ويعزز الثقة بينهما. إلا أنه سيشكّل إشارة قوية إلى إدراك النظام الإداري حكمة اجتذاب أسياد العالم الافتراضي وتوظيف مهاراتهم. على مر السنين، تسنت لي فرصة لقاء عدد من أفضل القراصنة في العالم والتعرف إليهم، ولاحظت أن القاسم المشترك بينهم (فضلاً عن الذكاء المذهل) انجذاب عميق إلى جمال الفضاء الافتراضي وتعقيده. لا تتملكهم الرغبة في نشر الخراب. على العكس، يؤمنون بضرورة تدفق المعلومات بحرية وأمان، معتقدين أن الحرية الافتراضية تشكّل غالباً منبراً للحرية في «العالم الحقيقي». ويكفي أن نتأمل أحداث الربيع العربي لندرك كم واقعية نظرتهم هذه!فضلاً عن توظيف التقنيين في عالم المعلوماتية وكبار قراصنة الكمبيوتر (لا تسد أي فئة من هاتين وحدها حاجات القيادة العسكرية الأميركية للفضاء الافتراضي)، يتوافر احتمال ثالث لملء هذه الشواغر: زيادة استخدام الذكاء الاصطناعي. يمتاز الذكاء الاصطناعي (فكروا في البرامج الإلكترونية الذكية، لا الرجال الآليين) في سرعته ودقته. يؤدي الذكاء الاصطناعي اليوم دوراً كبيراً في البحرية. نذكر، مثلاً، نظام «أجيس» الدفاعي في السفن الحربية وبرامج التحكم والتوجيه في صواريخ الهجمات البرية توماهوك. ويكمن الخطر في استخدام هذا الذكاء من دون توجيه بشري في احتمال أن يسيء هذا الذكاء الحكم (وفق المعايير البشرية). لذلك أقترح دمج قدرات الجنود مع فاعلية الذكاء الاصطناعي، ما يضاعف هذه القوة في الحال. هكذا نجمع بين الجنود الأذكياء والبرامج الذكية. علاوة على ذلك، تستطيع ردود فعل الذكاء الاصطناعي السريعة أن تحوّل دعوة وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا إلى قدرات وقائية افتراضية إلى حقيقة، بما أن صد هجوم يتطلب غالباً ردّ فعل في غضون أجزاء صغيرة من الثانية. لكن الهجوم لا يتطلب هذه السرعة، بما أنه يتمتع عادةً بعنصر المفاجأة. في هذه الحالة، يستطيع الجندي أن يتحكم إلى حدّ ما بكمبيوتره.خلاصة القول، تتوافر ثلاث طرق مبتكرة على الأقل للبدء بتحقيق رؤية توسيع القيادة العسكرية الأميركية للفضاء الافتراضي، التي طُرحت أخيراً. لكن المؤسف أن أيّاً منها لا يُعتمد بالحماسة الكافية. وفي وقت يشن فيه كثيرون حروباً في العالم الافتراضي (تأملوا التقارير الأخيرة عن العمليات الافتراضية الإيرانية والصينية)، تنمو القدرات الأميركية ببطء شديد. ولكن إن كان سباق التسلح لتطوير أسلحة نووية الهدف الأول خلال الحرب الباردة، يشكّل سباق المؤسسات لبناء شبكات قرصنة القوة الرئيسة في عصر «الحرب الافتراضية» هذا. لكننا ما زلنا نتخبط لنربط شريط حذائنا الرياضي في هذا السباق.* بروفسور متخصص في التحليل الدفاعي في المدرسة البحرية الأميركية للدراسات العليا.
توابل - EXTRA
الفضاء الافتراضي... أميركا تُجنِّد القراصنة!
20-02-2013